الناس في كل مكان هم هم. همومهم في تأمين متطلبات الحياة متشابهة، وقد تعاقدوا مع الحكومات من خلال العملية الديموقراطية على الحكم والإدارة بما يحقق حاجاتهم، وهي في عمقها حاجات إنسانية. فكيف إذاً لا تتحقق تلك الحاجات؟ بل كيف تضاف هموم جديدة للهموم القديمة؟ أين الخلل؟ هل هو في الناس أم في الحكومات أم في العلاقات الدولية حرباً وسلماً؟ لقد استغرق العلماء والباحثون طويلاً بدرس ما هو ماض، كذلك الحال مع العلم والحاضر للنهوض بحياة الإنسان ، وهاهم انشغلوا أخيراً بالمستقبل، وليس المقصود بالمستقبل مجرد خطط تنموية لثلاث سنوات أو خمس، بل وضع تلك الخطط في سياق فهم شامل للمستقبل القريب والمتوسط والبعيد، وحادثة العجوز وكسرى التي تعلمناها صغاراً مثال واضح، ولا زلنا نردد مع العجوز «زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون». وملخصها أن كسرى ملك الفرس تساءل وهو يرى شيخاً عجوزاً يزرع شتلة زيتون، عن مدى جدوى الزراعة وهو شيخ كبير لن يعمر حتى يأكل من ثمرها، كون شجر الزيتون يحتاج سنوات حتى يبدأ بطرح الثمر. فكان الجواب الحكيم «زرعوا فأكلنا...ونزرع فيأكلون». وهو جواب إنساني عميق يتحلى بروح المسؤولية الوجودية قبل أن يظهر سارتر وصحبه وما بعدهما بمئات بل بآلاف السنين. فليست المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية هي عن الحاضر والمستقبل القريب بما يتسع لسنوات حكم هذا الحزب أو ذلك أو الاثنين مع...بل هي مسؤولية لما هو أبعد وأكثر أثراً وعمقاً في التاريخ وفي حياة الإنسان على هذا الكوكب. لكن أين الخلل؟ هل الخلل والمشاكل في الناس أم في الحكومات أم في العلاقات الدولية حرباً أو سلماً؟ وكيف نربط ذلك بالزمن؟ وما الدافع إلى ذلك؟ إن الدافع الإنساني للاستفادة من المنجز الحضاري ليس فقط في التمدن، بل في العلاقات بين البشر، باتجاه علاقات طبيعية تسعدهم لا تشقيهم، داخل كل محيط. لكن كيف ننطلق من الانشغال بالحاجات اليومية للناس والشعوب إلى حاجات مستقبل أبنائهم وأحفادهم وأحفاد الأحفاد باعتبار أن الأجداد الكبار يحبون القادم من نسلهم؟ كيف نشجع الارتقاء بالهم الشخصي والاجتماعي والذاتي في كل المجالات ليصير وطنياً وقومياً وإنسانياً؟ سمعت في صغري مقولة: لا عاش من عاش لنفسه فقط ، فأعجبتني. واليوم أدعي أن الخلاص الحقيقي للفرد، أو للجماعة، أو للمجتمع، لن يكون خلاصاً حقيقياً إذا لم يكن ضمن خلاص واسع، حتى نضمن دوام هذا الخلاص، ولا أن يكون الخلاص الوهمي حاملاً في طياته شقاء لآخرين. الأديان السماوية يوليها الناس غاية تبجيلهم، كونها تتحدث عن الخلاص، أي السعادة في الدنيا وما بعدها. لذلك مثلاً رفع الإسلام السياسي العربي شعار: الإسلام هو الحل. أي الخلاص. ولذلك يرفع أي متقدم لمزاولة الإدارة والحكم شعارات تتحدث عن حلول المشاكل داخل المجتمع. وبنظري لم يعد ذلك كافياً! ذلك أنه إذا لم تسع المجتمعات والحكومات إلى حل نزاعاتها مع الآخرين، بل وحل نزاعات آخرين مع غيرهم، لن تستقر الحياة على كوكبنا، ذلك أن الخلاص الذي ننشده هو خلاص له صفة الدوام لا الموقت. فإذا تم تحقيق ذلك على يد المتدينين أو الوضعيين فهذا إنجاز مبارك، وإذا تم بالاتفاق بينهما فهو رائع، فلا يهم الاشتباك بين الأطراف، بل المهم السلام الدائم الذي يجب توريثه للأجيال القادمة. تبرير قيام المؤسسات الدولية كان للسلم العالمي بعد حربين كونيتين... لكن للأسف رغم النجاحات التي تم إنجازها، ما زالت هناك نزاعات أطول عمراً من عمر تأسيسها بحاجة لإرادة دولية للحل. حين تعرفنا في طفولتنا على الأممالمتحدة سعدنا بها، فقد اعتبرنا ذلك مدخلاً لحل المشاكل بين البشر. لكن لم يظل الحلم رومانسياً في ما بعد، حيث صرنا نرى الإرادات الأقوى لا الحقوق الأقوى. لم تكن إذاً أمماً متحدة بل حكومات تلتقي لتناقش وفق موازين القوى، في ظل وجود من له حق الاعتراض كونه قوياً. وأظن أن النهوض بالأممالمتحدة، يبدأ في نهوض الدول في حل مشاكلها الفردية والجماعية والمجتمعية انطلاقاً من الفهم الإنساني للخلاص، بعد ذلك وخلاله تصبح الهيئة الدولية مجموع إرادات تنشد الخلاص الدائم. إن الخلاص الحقيقي للفرد، أو للجماعة، أو للمجتمع، لن يكون خلاصاً حقيقياً إذا لم يكن ضمن خلاص واسع، حتى نضمن دوام هذا الخلاص، لا أن يكون الخلاص الوهمي حاملاً في طياته شقاء لآخرين. إذا تم نشر هذه الأفكار التي تبدو رومانسية يمكننا تحقيق الكثير خصوصاً في ظل ما تيسر نتائج العلم للبشر من فوائد وحلول بديلة عن العنف. فالصراعات هنا، إذا انطلقت من فهم حقيقي للسلام الدائم، ستنتهي، وأظن أننا طمحنا إليه في العشرين عاماً الأخيرة. لعلنا نراجع أنفسنا، ولعل الآخرين أيضاً يفعلون فعلنا! لعل الإسرائيليين يدركون أن خلاصهم الحقيقي لن يكون إلا بخلاصنا. ولعل المتنازعين والمتصارعين في كل مكان أن يفكروا إنسانياً، قبل التفكير ببناء مفاعلات نووية أو الرد عليها لاحتكارها. في كل مرة أصغي لمشاكلنا الفردية والمحلية والوطنية أتذكر آخرين مثلنا. وأزعم أن تنظيم الحياة والتعاون الحقيقي الإنساني المتضامن يحققان للجميع حياة فضلى، ومعروف أن المصالح هي سبب النزاعات، إذاً تحقيقها للآخرين هو مدخل لإنهاء النزاعات والصراعات. نحن بحاجة لعقد دولي يكون بمثابة عقد اجتماعي للحكم في المجتمع الواحد، أي أن يتم اهتمام كل دولة في الأممالمتحدة بالبلاد والشعوب كما يتم اهتمامها بذاتها، والسبب بسيط، إذا جاء خير يعم، وإذا جاء شر يعم أيضاً.