خيراً فعل مهرجان «أصوات حية» الشعري الذي عقد أخيراً في مدينة سِتْ الفرنسية بتسليط الضوء في دورته الأخيرة على تجربة الشاعر العراقي الستيني عبدالرحمن طهمازي، شاعر الظل والجوانيّات والهمهمة الداخلية، هذا الشاعر المنعزل والبعيد هو شاعر مقل، غير مطمئن ومشكك بكمال القصيدة، أية قصيدة، فكيف إذا كانت القصيدة هذه من صنيعه، فهو لا يكف عن تأملها وإعادة النظر فيها، لينهمك مرة أخرى في بادرة الصقل والصوغ والحذف حتى تكاد القصيدة تضمحل، لتبقى في النهاية عبارة عن صورة مصغرة من الصورة الأولى والكبيرة. هكذا، نظفر بلمحة من بقايا معنى، معنى تشكل من استعارة راقية، تحفر في الذهن ولا تزول لدقة الصنعة ومِكنة البناء. إذاً، هكذا عرفنا الشاعر عبدالرحمن طهمازي، شاعراً يسكن في قصائد قليلة، ولكنها ذات طبقات وأبهاء وأسس متينة، تجعله يديم سكناه في هذا المبنى الشعري المحفوف بالدلالات والمشجّر بالاستعارات الفريدة والكنايات المتطاولة كظلال وسط هذا المبنى، وهو مبنى لغوي ورمزي حافل بالموحيات، شيّده بصعوبة فنية بالغة. ينتمي طهمازي إلى جيل الستينات الصاخب، الجيل الراديكالي، جيل الغضب والموضة والتحرر من المواضعات العامة والأشكال التقليدية في الفن والحياة. جيل أسس للبحث عن سبل جديدة وأساليب مختلفة، طالبت بالحرية والتحديث، وبالثورة والانتفاض ضد الموروث والمتداول والمعمول به على مدار قرون. هذا الجيل يعد متقدماً برؤاه لو أجرينا عملية مقارنة مع ما يحدث الآن، من نكوص في مجالات الحياة العامة على مختلف صعدها الثقافية والاجتماعية والسياسية. ظهرت في تلك الفترة الصاخبة، تقنيات جمالية وفنية في حقل التعبير الشعري، شكلانية وفانتازية وثوروية، وافدة في الغالب من مدارس عالمية، سوريالية، دادائية ومستقبلية، تتفرع منها تشكيلات هندسية وغرائبية، كالقصيدة البصرية التي كتبها قحطان المدفعي والكونكريتية التي نادى بها أنور الغساني والدائرية التي بشر بها حسب الشيخ جعفر والتشكيلية التي جسّدها صادق الصايغ في قصيدة «قبر المرحوم» والراديكالية الرؤيوية التي نمذجها فاضل العزاوي في قصائد «لنخرج إلى الشوارع وننسف العالم القديم بالقنابل» و «تعاليم ف العزاوي إلى العالم» و «أنا الصرخة أية حنجرة تعزفني» والشكلية التي أظهرها حميد المطبعي والجمالية التي أبدعها سركون بولص والسوريالية التي جسدها عبدالقادر الجنابي والفانتازية التي لوّح بها صلاح فائق والدادائية التي طرحها جان دمو، وأخيراً عبدالرحمن طهمازي الذي أوحى بالنافر والوحشي والدفين في مناطق فنية مجهولة وبالغرائبي المنسي، لتكون القصيدة في الآخر منسية وغريبة مثله، غريبة الملامح والنسب والشكل. إن حديثي هذا ينصب على شريحة معينة من جيل الستينات المتشعّب الاتجاهات كيلا يحدث الالتباس. من هنا، قرأنا ونحن في أواسط السبعينات من الألفية الثانية، عناوين غريبة لشاعر خارج عن السائد، لشاعر سلك مسلكاً وحشياً، نافراً عن السياق، اختاره منذ بزوغ تجربته الغرائبية أوانذاك، فقرأنا ديوانه الأول «ذكرى الحاضر» ثم الثاني «تقريظ للطبيعة» هذا بعد أنْ عرفنا قصائده بطلتهاالإكزوتيكية، خلاف ما هو سائد من قصائد سيمترية، سكولائية، مباشرة، تعنى بالإبلاغ السريع والإفصاح المكشوف غير المستتر والمتواري. لذلك، بدت لنا قصائد طهمازي في تلك الفترة ملغزة، تحمل طابعاً تستّريّاً، وتحتاج إلى أكثر من قراءة مستويات وعدة من التحديق في الصنيع. من هنا، صمودها لفترة طويلة مثل قصائد: «سلاطين العجم» و «صباح التعارضات» و «أطفال الأفق» و «رجال وطبائع» و «أمل القانط» وغيرها مما كان ينمّقه مخيال متوحش، لم يألف المألوف ولم يقتنع بالمتوافر من الصور والاستعارات وحتى التشكيلات الصوتية، فكان يخترقها ليؤسس استعارته الصوتية الخاصة به، المدوّمة مثل ريح، ترنّ في الآفاق، منبثقة من أعماق نفسه ومن تقريظه للطبيعة. كان الشاعر عبدالرحمن طهمازي في حياته، وكما عرفناه، يهوى الجدل والانغماس في الأفكار والرؤى الجاذبة، تلك المتولدة من عالم فلسفي ونقدي. باكراً تحدث بأفكار ريجيس دوبريه واليسار الجديد وبالمثقف العضوي لدى غرامشي وطروحات فرانز فانون وغيرهم ممن كانوا يبشرون بالتحول والثورات، وبعالم جديد غير خاضع، راديكالي وغير مؤدلج لجهة ما. من هنا، كانت صداقته للمفكر العراقي القتيل والمُغيّب في سجون العهد السابق عزيز السيد جاسم، ولطالما رأيتهما معاً منزويين في ظلال حانة، يتداولان شؤون الفكر والفلسفة، أو يتباسطان في أمور الفن والأدب في مقهى المُعَقّدين والذي قال فيه في ذلك الزمن الصعب والخطر عن رفيقه: «في الأرض، في الأشجار تبقى يداك». ناهيك عن صلته ومتابعته المتأنية لشاعر رائد هو محمود البريكان، بحيث انجذب إليه ليجد فيه الصورة النقية للشاعر، البعيد من مساقط الضوء والشهرة، الشاعر المتواري وراء كلمات يعدّها لقلتها ويعيد صوغها من جديد. في هذا المنحى اختط الشاعر عبدالرحمن طهمازي سياقاً خاصاً في الكتابة الشعرية والنقدية، خصوصاً دراساته في الفن التشكيلي التي لا تقل غموضاً عن شعره، تلك الكتابات التي سدّتْ فراغاً في ما هو مختلف، فوجدناه يقول في إحدى قصائده: «الفراغ هو ألم الشاعر، العجز وحراسة البلاهة».