تعددت حالات إصابتي ب«تناحة»، «فم فاغر، رمش طاير، ولسان مترهل»، كان أولها عندما التحقت بشركة "أرامكو" وأخبروني بضرورة «البنطلون» كفرض لا تجوز الوظيفة من دونه، استمرت «تناحة» خالد آنذاك من محال الملابس الجاهزة بالدمام حتى جدران معهد أرامكو، كنت أمشي بجوارها في غاية الانكسار بسبب قناعتي بأن "البنطلون" لا يمنع عيون الناس عن أسرار الناس. تكررت «التناحة» الثانية بعدها بسنوات قليلة عندما وجدت نفسي أجلس في ديار غجر العرب «النَوَرْ»، هناك يحدث إرباك حقيقي لمفاهيم كثيرة، فالفقر محفز كبير على الطرب الراقص، والفتاة تفرح بقدرتها على «تسحيب» الشباب، لأن ذلك يرفع مقامه بين قومه، بينما أمهات جيش الراقصات يطْحَن حرباً خفية حول نزع ثروات الشباب. في ديار الغجر ولياليهم يبحث رعايانا عن الريادة، حروب طاولات مستديرة، كانت الحفلات القديمة تنتهي بأغنية «خليجنا واحد»، ثم غابت وأتت أغنية «فوق هام السحب»، قبل أن تتسيد أغنية: «يا سلامي عليكم يا السعودية»، فهناك يحدث اختصار للعبة الصدارة، يكاد يكون كل مرقص وملهى ليلي ساحة صراع سياسي، المدهش أن أصغر موظف في هذه «المساهر» يعي النار ويؤججها. أتت حال «التناحة» الثالثة في دبي، عند عثوري على نفق للمشاة يمتد تحت مياه خور دبي، يربط ساحل "الشندغة" بمنطقة بر دبي، أتذكر أنني عبرت النفق الأسمنتي مرات عدة في اليوم ذاته، على رغم ارتفاع درجات الهواء والرطوبة، حينها فقط فهمت معنى آخر لأغنية عبدالحليم حافظ «رسالة من تحت الماء»، فتحقيق المشي تحت الماء يشبه تحقيق المشي فوق الماء، وبالتالي فإنني بدأت أتقبل بعض قصص تتحدث عن أناس يمشون على سطح الماء، لا غرق ولا بلل. كانت اليابان مصدر «التناحة» الرابعة، لأن معظم آحادهم يخرج من مقر عمله إلى «البار قبل الدار» يشرب وكأنه يفي بنذر مقدس، تنتهي ساعات الدوام اليومي عند السادسة مساء فتبدأ فوراً ساعات الشراب اليومي حتى ال12، ساعات ست من الأقداح والساقيات، ثم يوحي كامل المشهد أن اليابان لن تصحو من سباتها غداً، لكن عندما يأتي غداً نجد اليابان «وجيش ثمالى ليلة البارحة» يتسيدون ثقافة العمل والإنجاز عالمياً. كان الشراب الياباني، ناسه، ونتاج أمته يتعارض مع ما أعرفه عن العربي، ناسه ونتاج أمته، ربما كانت بضاعتنا مغشوشة، أو ناسنا، أو أمتنا، كذلك ضد مبادئ قريتي القديمة وصفعات أليمة على وجهي يتبعها «قم يا ورع نم»، ثم بعد دهر أجد نفسي أعيش في بيت كل مقتنياته مكتوب عليها «صنع في بلد سهارى»، ليس بيتي وحده، بل كل الوطن. قدمت لنا شبكة القاعدة «التناحة» الخامسة، كان الحدث في حي الصفا بجدة، في تسارع أحداث ناتج عن محاصرة قوات أمن سعودية لمجموعة مسلحين، رماني حظي الصحافي بين الطرفين، لكن «تنح بي وبقوة» مرور أحد المسلحين بجواري، يتدثر رشاشه ويتحدث ناصحاً لمن هم في الشارع وبحماسة شديدة «ادخلوا في البيت لا يجيكم الرصاص»، وكأنه ليس في أجواء موت، يكاد يكون مجرد مراهق يتشارك في لعبة «إعظيم ساري»، بينما كان جواب السامعين «ابشر، جزاك الله خيراً» تلك ليلة، لا تسقط من ذاكرة. تتوالد يومياً أسباب ل«التتنيح»، فرسمياً «يوجد مرتشون» قفّل القوس، وأكتب من أول السطر «في كل أرجاء الكون يرفض العقل الباطن ربط صورة القاضي بصورة مرتشٍ»، في ديارنا ربما كان مسار تربية بعض القضاة نقي جداً، صارم جداً، متشبع بأنواع من الحرمان، وبالتالي فإن الأنقياء والمحرومين أكثر الناس استجابة لحدوث خديعة، وعملية غسيل دماغ، فكل منهج ديني تم اجتيازه بنجاح أثناء سنوات الدراسة كان مجرد كاميرا خفية لأنه لم يؤدِ إلى الجنة». تأتي «التناحة» أيضاً من شاشة تلفزيونات يتموضع عليها رجال - غير سوريين - تحسبهم عقلاء، يستميتون بالدفاع عن «بشار الأسد»، فلا الرجل ابن جلدتهم، ولم يستشرهم بما يفعل، ولا ينتمون لعشيرته في السياسة والاقتصاد، وكأنهم جزء من فرقة «بكاءات الأموات» مقابل دريهمات يفرشن أرض العزاء دمعاً وحزناً، فكونهن قبيحات لم يستطعن تأسيس فرقة راقصات، وكذلك هؤلاء المتمترسون في قلعة الأسد لم يستطيعوا تأسيس فرقة راقصات، منعهم قبحهم الداخلي، فأصبحوا باكيات على أطراف تابوت ينتظر جثة. [email protected] jeddah9000@