فنان «البوب آرت» الرائد مارسيل رايس أميركي من أصل فرنسي، مولود في أبرز مدن السيراميك على الساحل الجنوبي الفرنسي المتوسّط وهي فالوريز عام 1936. قضى فيها بيكاسو السنوات الأربع من أواخر حياته في محترفاتها الخاصة بالسيراميك، وكانت جارته أكبر فنانة جزائرية «باية» محي الدين. ولد مارسيل في هذه الحاضنة الفنية من والدين يعملان في تصميم السيراميك، وعمل معهما في بواكير ممارساته الفنية... هذا المرفأ المتواضع يقع بين مدينة آرل في الداخل المتوسطي (مدينة سيزان وفان غوغ) ومدينة نيس عاصمة الكوكبة المتوسطية على البحر. إذا ما تجاوزنا أن رايس ابتدأ حياته الإبداعية كاتباً ثم انشق عن جالية الأدب لإخفاقه، وظل يردّد مأثورته المعروفة في أكثر من مناسبة «بأنه أصبح مصوراً، لأن التصوير لغة من دون كلام لذا فهو أشد شمولية من الأدب»، أقول إذا تجاوزنا أهمية هذا الانعطاف وجدناه منتسباً كمصور «لمدرسة نيس» التي كانت تجمع في تأسيسها كبار فنّاني مجموعة «الواقعية الجديدة» التي جمعها الناقد الفرنسي المتنور بيير ريستاني ونظّر لها في بداية الستينات. من أمثال سيزار وآرمان وكلين ورايس وبن. تميز رايس في المعارض المشتركة لهؤلاء بأنه لا يهتم ببقايا المستهلكات وإعادة استخدام نفايات (كما هو نحت هارمان وسيزار) ولكن تقنية «الأسامبلاج» (التركيب) التي شاركهم فيها أحياناً... كانت العناصر الاستهلاكية لديه صريحة وحية وبألوان شعبية صارخة، على اعتبار أن محتويات المخازن التجارية هي المتاحف الجديدة المعاصرة. لاحظنا سابقاً أن كوكبة معارض «البوب آرت» الأميركي قائمة حالياً وبأوقات متزامنة في المونوبولات الأوروبية: لندن ونابولي ومدريدوباريس، تسعى متاحف كل منها لإثبات انتساب تأسيس هذا الاتجاه إليها قبل سيطرته في الولاياتالمتحدة على الحركة الفنية هناك. رأينا سابقاً كيف أن مجموعة غورنيكا في مدريد ابتدأت البوب منذ الخمسينات. وشهدنا أصوله الإنكليزية بما فيه اختراع مصطلح البوب في لندن عن طريق هاملتون وهوكني وهجرتهما مع المصطلح إلى الولاياتالمتحدة. لكن المعرض الراهن يثبت أن مساهمة فرنسا في هذا التأسيس تملك ربما النصيب الأكبر تاريخيا، فالمساهمة الإيطالية بادئ ذي بدء مرت من باريس بصفة أن رائدها آريو أسس «التشخيصية المحدثة» في باريس، ولم تثمر «التشخيصية السردية» أيضاً إلا هنا، على رغم أن روادها على غرار آدامي كانوا يستقرون في إيطاليا. كما أن الفرنسي جان دوبوفي أسس تيار «الفن البكر» في الخمسينات كتوأم «للبوب آرت». وهنا نصل إلى بيت القصيد، فمعرض مارسيل رايس يثبت أن أصله الفرنسي (على رغم ريادته للبوب آرت في نيويورك) لعب دوراً كبيراً في تحوله من «مدرسة نيس» التي ستكون أثناء سفره إلى نيويورك بمثابة تيار «الواقعية الجديدة» التي تبادلت المعارض والأفكار مع البوب النيويوركي بخاصة مع المؤسس روشنبرغ الذي تحولت معارضه المبكرة إلى باريس وما زالت. ثم إنه وبفضل الناقد ريستاني تحول عدد من رواد هذه المدرسة الفرنسيّة إلى الانخراط في تيار البوب كسيزار وهارمان وتانغلي. إذا توقفنا عن هذا الاستطراد وعدنا إلى موضوعنا الأساسي وهو تجربة مارسيل رايس ضمن عشيرة البوب الأميركية وجدناه متملكاً لخصائص فكرية مستقلة عن زملاء، فتصل نزعاته الذهنية الجامحة إلى حد التطرف والشطح، وبعض النقاد يعتبره الحد المتوسط بين «البوب» و»المفاهيمية» (هي التي تغلّب الأطروحة النقدية على المادة). تتطور تجرته بعكس التيار العام في البوب على رغم أن حساسيته تشاركهم في استهلاكية وفجاجة استعارة المثل البوذي «أنت هو ما تأكل». بما أنه كان أبلغهم ثقافة فقد قاد تغليبه التطور النوعي على الكمي إلى أنه أصبح أو داعية معاصر لكسر قدسية «وحدة الأسلوب» ومخالفة تراكم تقاليد الماركة المسجلة أو الختم المميّز والتوقيع النرجسي في المنتج الفني. تتراوح لوحاته بين أساليب متباعدة حتى لا نقول متناقضة وكذلك قياسات لوحاته ما بين عملقة فريسكات المكسيك (من أمثال سكيروس وريفيرا)، والبورتريهات النجومية لزميله أندي ورهول، وهنا نعثر على خرق جديد لتقاليد لوحة الحامل الأحادية، وذلك بالبديل وهو التعددية في نسخ الطباعة بالشاشة الحرير (السيريغرافي)، كذلك الخلط بين مفهومين: التصوير والنحت من خلال تهجين العمل الفني باستخدام أنابيب النيون فيتداخل التجريدي المنمالي مع الصور الاستهلاكية. كان هذا بالنسبة إليه نوعاً من الضمان النظري من التعثر في رتابة الأسلبة أو التنميط الذي وقع فيه زملاء. قد نعثر أخيراً في سياق تجربته المتطورة على مراجعة دعوة «مدرسة الباوهاوس» بالعودة إلى تقاليد وحدة الفنون النخبوية مع التطبيقية، هي المدرسة التي أغلقها النازيون فانتقلت ببعض روادها إلى نيويورك من مثال ألبير وموهولي ناجي. وانتقالها بالتالي إلى محترفات أميركا اللاتينية عن طريق فرعها المختص بالوهم البصري (السينيتيك) في الأرجنتين عن طريق دييز وسوتو. وبسبب خصائص مارسيل رايس الثقافية والانفتاحية الشمولية فقد خصّص له متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو معرضا استعادياً تفصيلياً، يعكس تعدديته الإنتاجية والأسلوبية، ناهيك عن إثبات الشراكة الفنية الفرنسية في تيار «البوب آرت». ويستمر العرض حتى نهاية أيلول (سبتمبر).