يقام في أبرز متحفين في الجنوب المتوسطي الفرنسي وهما «متحف مرسيليا» و «متحف إكس أن بروفانس» معرضان يتشاركان الموضوع نفسه، وهو المحترفات التشكيلية الكبرى في الجنوب الفرنسي، وذلك من خلال مئتي لوحة أنجزت ما بين عامي 1880 و1960، وضمن محترفات رواد المعاصرة والحداثة التي أقيمت في تلك الفترة على شاطئ «البحر الأبيض المتوسط» مجتاحةً خلجانه ومرافئه «ومونوبولاته»، حتى تشكلت منها أبرز مجموعة لوحات خاصة بالمتوسط وهي «مجموعة مايت». مال الفنانون منذ البداية إلى خصوبة الاكتشاف الضوئي المتوسطي والنور الذي تمنحه مناظر شواطئ المتوسط مع حرائق شموسها. ثم تحولت هذه المحترفات بالتدريج إلى مختبرات تشكيلية مغامرة مخاطرة تستشرف قيم مستقبل الحداثة والمعاصرة. دعونا نتأمل إجابة زعيم الانطباعية المعلم كلود مونيه لأحد النقّاد الذي طلب زيارة محترفه الشخصي، كان مونيه منشغلاً بمنظر بحري مقابل المتوسط في المنطقة الساحلية التي كان مستقراً بها (سان رفائيل) يقول: «ها هو المحترف أمامك بموجه وأفقه ونورانيته المتوسطية»، كان ذلك عام 1880. من هنا، يسجل المعرض الثنائي تاريخ بداية توثيقه. يستمر المعرض خلال أشهر موسم الصيف المديدة وحتى فصل الخريف. علينا استدراك بادئ ذي بدء أن تاريخ بداية المعرض لا يحتكر البوادر الأولى في قوة الجذب الضوئي والنوراني والشمسي لأمواج المتوسط وشواطئه: من الريفييرا إلى الكوت دازير. دعونا نتذكر تأسيس هذه التقاليد مع ابن الجنوب الباريسي المؤسس للرومانسية المعلم أوجين دو لاكروا وهجرته إلى المتوسط ومرافئه وخلجانه وصولاً حتى شواطئ المغرب والأندلس، وبداية الاستشراق في الفن. وانتهال موضوعات «ألف ليلة وليلة» ما بين المرافئ التركية والأندلسية عبوراً بمرافئ الجنوب الفرنسي التي تشكل موضوع المعرض الثنائي الراهن. يتمتع المهرجان الثنائي البانورامي المذكور بمشرفين بالغي الاختصاص، يمثلان مفوضية المعرض. استطاعا أن يرسما لأول مرة في تاريخ النقد المرافئ المتوسطية الجغرافية الفرنسية التي تقع فيها المحترفات الكبرى المذكورة. الأهم هو تحديدهما تاريخ تأسيس هذه المحترفات وتبديلها بين الفينة والأخرى. لعل أشهرها يمثل استضافة سينياك بول سيزان في محترفه عام 1904 في سان تروبيز. حيث بدأ سيزان يتحفنا بمناظر هذه المنطقة الفردوسية وسابحيها على البحر. ثم عاد من جديد ليستقر مستقلاً قبل تجذره قبالة جبل سان فكتوار في «إكس أن بروفانس» موقع ولادته. وكان سبقه معاصروه فان غوغ وبول غوغان إلى السفر المتوسطي. فغرفة فان غوغ الصفراء في مدينة أرل ترجع إلى عام 1888 وكذلك لوحة «المقهى» وكذلك لوحة غوغان عن المنطقة نفسها ترجع إلى المرحلة نفسها. أما النحات المعروف مايول فقد استقر منذ عام 1895 في بربينيان لينحت نساءه الرمزيات بنات المتوسط. أما أعمال بول سينياك (رفيق سيزان) فلعل أشهرها لوحة سيدات البئر في سان تروبيز عام 1892. أما جورج براك فقد استقر مبكراً في مرفأ إستاك عام 1907 القريب من مرسيليا. من أشهر الأسفار والمحترفات المتوسطية تلك الخاصة بالمعلمين هنري ماتيس وبابلو بيكاسو، فالأول استمر في نشر تيار «الوحشية» المنبثق عن الانطباعية مع استقراره في مرفأ نيس منذ عام 1917 وتنقله بينه وبين أنحاء الريفييرا والكوت دازير (ليرسم كنيسة فانس)، وليس مصادفة أنه غير بعيد تقع المدن التي ألهمته مثل طنجة وإشبيلية. كذلك الأمر مع بيكاسو فقد تنقل بين «كان» و «آنتيب» منذ عام 1926 وهما القريبتان من مرفأ ولادته ملقة في الجانب الإسباني المتوسطي. ولكن إقامته الأهم ابتدأت منذ 1946 في الكوت دازير حتى توفي عام 1973، متنقلاً بين مدن ومحترفات السيراميك: «موجان وفالوريز وأنتيب» (تعرضنا لعروضها بهذه المناسبة) ونجد بأن الثالث البارز والأصغر منهما المعلم بيير بونار يستقر منذ العام 1930 في مرفأ لوكاني القريب من نيس. يكشف المهرجان الثنائي بقية الكوكبة من المحترفات المتوسطية وروادها من الأقل أهمية أو الأشد حداثة من مثال راؤول دوفي في مرفأ مارتيج، أو موريس فلامينغ في سان تروبيز أو سوتين في فانس منذ عام 1923، أو رينوار. ينتهي المعرض بلوحة نيكولا دوستائيل المعروفة «بالأشرعة» من الجيل التالي عام 1955، في آنتيب، ممثلاً ذروة المختبر التجريدي والتجريبي لمحترفات المتوسط. إلى جانب زميله التجريدي بروم فان فيلد. ولا يمكن إغفال المعارض المتزامنة التي تندرج ضمن هذا المحور أو الموضوع، لكن مجهرها يقتصر على فنان واحد أو على مقارنة بين اثنين (تعرضنا إلى معارض سيراميك بيكاسو)، إذ هناك مثلاً معرض احتفالي في عنوان «صيف ماتيس» يتمثّل بمعارض في مدينة نيس وغيرها، إضافة إلى معرض «نساء متوسطيات» في متحف مدينة كاليور. إذاً، يتسم الموسم التشكيلي لصيف فرنسا هذه المرة بالنكهة المتوسطية. «مرفأ أنتيب على المتوسط» زيتية بريشة كلود مونيه