انتظمت الاستقطابات الدولية حول الشأن السوري في صورة توازن قوى بين قوى ليست متعادلة الأوزان في الواقع. حلفاء النظام السوري، إيرانوروسيا و «حزب الله» خصوصاً، ليسوا بقوة ووزن «أصدقاء الشعب السوري» المفترضين، وبينهم القوى الغربية وتركيا. ولتوازن القوى مفعول سياسي دولي يماثل مفعول الحرب الباردة طوال نحو أربعين سنة بين أواخر أربعينات القرن العشرين وأواخر ثمانيناته. كان السلاح المطلق، النووي، حال وقتها دون اندلاع نزاع مسلح بين القوى العظمى، فجعل الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وحلفيهما، متعادلين على رغم أنه في كل ما هو نسبي، بما في ذلك السلاح التقليدي، كان معسكر الغرب متفوقاً على نظيره الشرقي. عوّض المعسكران عن امتناع الحرب بينهما بتغذية حروب محلية هنا وهناك، كان بعضها جديراً بصفة حروب الوكالة، وكلها يستبطن حالة الاستقطاب الدولي. ولكن، حتى على مستوى هذه الجبهات الفرعية، تسبب التوازن على مستوى القمة الدولية في وضع خاص جداً. فقد بدا أن الدول الأقوى أقل قوة مما هي في الواقع، بينما القوى الدولية الأضعف أقوى مما هي فعلاً. أميركا والاتحاد السوفياتي ضعيفان نسبياً فيما إسرائيل قوية جداً، ومثلها عربياً سورية الأسد وعراق صدام وليبيا القذافي التي توهم طاغيتها من القوة الذاتية حد أن وصف البلد الذي يحكمه بالعظمة، واخترع له نظاماً عالمياً خاصاً. ومعلوم أن من أولى نتائج انتهاء الحرب الباردة أن سُحِق العراق الذي لم يفهم طاغيته شيئاً مما كان يجري فاحتل الكويت، وأن من أول ما فعله حافظ الأسد عند نهاية الحرب الباردة هو التكيف مع الأوضاع الجديدة، والمشاركة تحت إمرة الأميركيين في الحرب الدولية ضد العراق. أما إسرائيل فزادت قوة بعد انهيار نظام القطبين، لأنها مسنودة من القطب المنتصر لكن، كذلك لأنها اعتنت بتطوير قوة ذاتية في مجالات عسكرية وعلمية وتكنولوجية واقتصادية. ما يشبه هذا المفعول النوعي للحرب الباردة محقق اليوم في سورية، ولكن ليس بسبب تعادل في الأسلحة المطلقة، بل لأن حلفاء النظام يظهرون عزماً قوياً جداً في دعمه ويعتبرون معركته معركتهم فلا يبخلون عليه بشيء، فيما «أصدقاء الشعب السوري» الأقوياء مزدوجو المشاعر، لا يحبون النظام السوري، لكنهم لا يحبون الشعب السوري أيضاً، ويشغل أمن إسرائيل وقضية أسلحة الدمار الشامل و «الإرهاب الإسلامي» مواقع متقدمة في أجندات تفكيرهم، ولا تشغل حرية السوريين وحياتهم غير موقع ثانوي في حساباتهم. وهم لا ينفكون يبحثون عن، ويعثرون على، ذرائع تسوّغ لهم ترك المقتلة السورية تجري كما يشاء لها النظام. أما غير الأقوياء من «أصدقائنا» ففاقدون للإرادة المستقلة ولا يستطيعون التصرف من دون إذن من الأقوياء. وبينما يثابر الروس وإيران و «حزب الله» اللبناني على دعم النظام بالسلاح والتكنولوجيا والمال والرجال، تفقد المواقف المعلنة للقوى المناوئة للنظام، وهي تضم أقوياء العالم وأقوياء العرب والجوار، أية قيمة ردعية بتأثير تكرارها من دون فعل. الردع يقتضي صدقية التحذيرات، فإن خسرها مرة (وقد خسرها مرات)، خسرها كل مرة. في المحصلة شعر النظام السوري بأنه يستطيع أن يفعل كل ما يستطيع، أي أنه قوي جداً، وما كان يتردد في فعله قبل حين، صار يفعله اليوم علانية. يستخدم الأسلحة الثقيلة ضد المدنيين، وبالكاد يُوَاجه بغير تحفظات طقسية، ثم يستخدم الطائرات العمودية ضد محكوميه الثائرين من دون أن ترتفع حتى نغمة الغمغمة الدولية، ثم يستخدم الطيران الحربي ضد المدن والبلدات وسط ما يبدو من حيرة دولية في سب التعامل معه. ثم يجري تحذير النظام من استخدام الأسلحة الكيماوية ضد محكوميه الثائرين تحت طائلة احتمال التدخل العسكري (أوباما، 21/ 8)، الأمر الذي يشبه إجازة لاستخدام كل ما دونها. وفوق ذلك، ليس أكيداً في حال أن صدقية هذا التحذير تفوق صدقية سابقيه. خلال ذلك سقط حوالى 22 ألفاً من الثائرين والمدنيين السوريين، وفق المعطيات الأكثر تحفظاً وتدقيقا (غير معلوم عدد مَن سقطوا دفاعاً عن النظام، لكنهم بالألوف)، وهُجِّر من ديارهم في الداخل والخارج ما قد يقارب 3 ملايين سوري (السوريون 23 مليوناً عام 2009)، وهناك ألوف المختفين وعشرات ألوف المعتقلين، ويسقط كل يوم ما معدله 150 من المدنيين والمقاومين، وتقع كل يوم تقريباً مجزرة، وتكتشف جثث ضحايا بالعشرات في عشرات المواقع في البلد، ذبحاً أحياناً، وتقطيعاً بالبلطات أحياناً أخرى، وبعد تعرضهم لتعذيب وحشي غالباً... وهذا فضلاً عن تدمير اقتصادي وعمراني أكلافه عشرات البلايين من الدولارات حتماً. ولكن، ربما يتجاوز الأثر المتماثل للتوازنات الدولية حول الشأن السوري اليوم وتوازنات الحرب الباردة إضعاف الأقوى وتقوية الأضعف إلى تشكل توازن دولي جديد ونظام دولي جديد. ظروف هذا التشكل الجديد تتهيأ منذ بعض الوقت (إخفاق الاعتماد الأميركي على التفوق العسكري لفرض الأحادية القطبية، أزمات الاقتصادات الغربية، صعود الصين...)، لكن الثورة السورية، وبالتناسب مع طول أمدها، ومع ما وسمها من تراجع دولي أمام حلفاء النظام بصورة تذكر بتراجع أوروبا أمام هتلر قبيل الحرب العالمية الثانية، قد تكون هي المناسبة التاريخية لتظهير نظام دولي مختلف، أقل تمركزاً حول الغرب، والقطب الأشد صعوداً فيه ليس روسيا، بل الصين، البلد الذي يحتجب وراء غيره في الساحة الدولية، ويأخذ أوضاعاً أقل تزعماً على الساحة الدولية. ولكن، ما السر في هذا التراجع الدولي ذاته؟ كيف يحصل أن يعجز أقوياء العالم عن تسهيل سقوط نظام يمقتونه ويثور ضده شعبه، وكان مرجحاً أن تتضاعف عواقب سقوطه كلما طال أمد بقائه، ولا تقل؟ في الأمر أشياء عدة: الفشل البيّن لسياسة التدخلات في العشرية الأخيرة، طائفية الغرب وخشيته المريضة من الإسلاميين، الخشية من إطلاق موجة من التغيرات الكبيرة في الإقليم ككل، ومن أهمها الموقع المتقدم لإسرائيل وأمنها في رسم سياسات الغرب وتفكيره. وبينما قد تحل التضحية بالسوريين بعض هذه المشكلات على المدى القريب، فإن التراجع أمام الإجرام الفائق للنظام السوري وحلفائه، سيحرّض مشكلات إقليمية ودولية أكبر، وسيجعل العالم كله مكاناً أكثر وحشية ورجعية ويأساً. لا أصدقاء للشعب السوري.