تفاؤل حذر خرجت بها ثلاثة أيام من الاجتماعات الساخنة في الإسكندرية بعدما ظل يطل برأسه الخلاف الذي حصل في كينشاسا في أيار (مايو) الماضي بين مصر والسودان من جانب وباقي دول حوض النيل من جانب آخر. كان بعض الاجتماعات عادياً مثل اجتماع اللجنة الفنية الاستشارية لمبادرة حوض نهر النيل أو الاجتماع الدوري لوزراء الري في دول حوض النيل الذي تسلمت مصر رئاسته من الكونغو. وبعد اجتماعات أخرى كان محورها تقويم عشر سنوات من عمر «مبادرة حوض النيل»، خرج الجميع وقرارهم النهائي هو تجاوز ما حدث في كينشاسا والعودة إلى الحوار وحتمية مشاركة دول حوض النيل كافة في الإطار القانوني لإنشاء «مفوضية حوض نهر النيل» خلفاً ل»مبادرة حوض نهر النيل». في اجتماع الإسكندرية بدا أن هناك تفهماً أكبر للمصالح الخاصة للدول والمصالح المشتركة في ضوء كفاية الماء للجميع، حتى إن الفاقد منه يعتبر كبيراً فالأمطار التي تسقط على الهضبة الأثيوبية تصل إلى 480 بليون متر مكعب يهدر معظمها، والأمطار التي تسقط علي الهضبة الاستوائية تصل إلى ما يزيد عن 1660 بليون متر مكعب يصل إلى نهر النيل منها خمسة في المئة فقط و الباقي في حكم الفاقد، فلماذا لا تقام مشروعات لتلافي هذا الهدر؟ وعلى هامش اجتماعات الإسكندرية صرح غوردون مومبو المسؤول عن مشروع بناء الثقة ومشاركة المنتفعين في إطار مبادرة حوض نهر النيل ل»الحياة» بأن هناك الآن أساساً قوياً لبناء هذه الثقة والمشاركة بين الدول على المستوى الرسمي والشعبي، مشيراً إلى أن «الوضع لا يقارن أبداً بالسنوات العشر الماضية، فهناك مشروعات تستند الى الرؤية المشتركة للإدارة الجيدة والمتكاملة للمياه، ولقد أجرينا استطلاعاً للرأي في دول حوض النيل حول موضوع التعاون وهل تراه شعوبنا مهماً أم لا، وعبر 95 في المئة عن اعتقادهم بضرورة التعاون وحتميته». وسيتحول «مشروع بناء الثقة» بعد نهاية مدته في كانون الأول (ديسمبر) المقبل الى عمل دائم لسكرتارية المبادرة التي ستسمى «مفوضية حوض النيل». وشددت السفيرة منى عمر مساعدة وزير الخارجية المصري للشؤون الأفريقية على أهمية استمرار الحوار والتفاوض بين دول حوض النيل مهما كانت خلافات. وأكدت ل»الحياة» ضرورة بذل جهد كبير مع الرأي العام في دول المنطقة، «فالصورة مشوهة، وبالتالي تقع الشعوب فريسة لأية شائعة أو أخبار مغلوطة». وقالت وزيرة الري الأوغندية ماريا موتاغانبا ل»الحياة» :»في الماضي لم نكن نتحدث مع بعضنا البعض. الآن نتحدث ونخطط معاً وننفذ معاً مشروعات مشتركة، وشعوبنا الآن تعرف الكثير عن حوض النيل». وقالت موتاغانبا إنها تتوقع من مصر الكثير، خصوصاً بعد تسلمها رئاسة مجلس وزراء الري لحوض النيل، مؤكدة «ضرورة تفهم مشكلات التنمية في دول الحوض والنظر إلي الأمام وتحقيق العدالة وإتاحة الفرص للجميع من دون تفرقة ليعيشوا حياة أفضل، ولابد من تنظيم استخدام المياه». وقالت «في أوغندا مثلا أوفر المياه ل60 في المئة من الشعب وأريدها أن تصل إلى 80 في المئة على الأقل خلال الفترة القصيرة المقبلة». وأكد محمد نصر الدين علام وزير الري المصري أن الرحلة إلى الأمام مازالت صعبة إلا أن المسافة التي قطعت والصعوبات التي تم التغلب عليها تعد استثنائية وإذا كانت التحديات كبيرة فإمكانات النجاح كبيرة أيضاً ولدينا مصالح قومية سنحافظ عليها». وفي هذا الإطار يشار إلى أن العلاقات المصرية - السودانية حول المياه شبه متكاملة وتدعمها اتفاقات ثنائية، منها اتفاقية عام 1959 التي تحدد نصيب مصر من المياه ب 55،5 بليون متر مكعب سنويا والسودان ب 18،5 بليون متر مكعب. وفي العام 1960 تأسست الهيئة الفنية الدائمة المشتركة للنيل المصرية - السودانية، وكان هناك حرص على أن يكون اسمها «الهيئة الفنية الدائمة». وقال صلاح الدين يوسف رئيس الجانب السوداني في الهيئة ل»الحياة»: «إن الاتفاقية المصرية - السودانية تحمل في صلبها اعترافاً كاملاً بحقوق الدول الأخرى في الحوض، ولكن هذه الصورة ليست واضحة بما يكفي، ولذا كان أحد قرارات الاجتماع الطارئ بين السودان ومصر في الإسكندرية هو تقوية هذه الهيئة وتطويرها ودعم العمل الجماعي لدول حوض النيل». من جانبه صرح وزير الري السوداني كمال علي محمد ل»الحياة» بأن مصر والسودان «طلبتا من باقي الدول في المبادرة التريث في موضوع توقيع الاتفاق القانوني للمبادرة حتى يتم توحيد الرؤى، فالانقسام يضر بالمصالح العليا لدول حوض النيل كافة». وأضاف: «سنعمل بكل قوة وعزيمة سياسية على تحقيق هذه الوحدة وتنفيذ مشروعات ذات منافع مشتركة بين الدول في أعالي حوض النيل أو أسفله، في إطار الاستغلال العادل للمياه وطبقاً للظروف الهيدرولوجية والمناخية والجغرافية وغيرها». وبسؤاله عما إذا ما كان للدول المانحة دور في التأثير على دول النيل الجنوبي للعودة إلي طاولة المفاوضات والإقرار بضرورة وجود مصر والسودان في أي قرار يتعلق بالمبادرة أو الإطار المؤسسي والقانوني للمبادرة، قال الوزير السوداني إن المذكرة التي أصدرتها الدول المانحة كان لها تأثير حينما طالبت بضرورة توحد دول حوض النيل وعدم حدوث انقسامات وأن أية مفوضية لدول حوض النيل ينبغي أن تضم دول الحوض كافة. وأكد أحمد نظيف رئيس الوزراء المصري استعداد بلاده لتقديم «المعونة الفنية والمالية لباقي دول حوض النيل»، وقال إن دول حوض النيل ستحظى بأولوية الدعم من جانب الصندوق الفني للتعاون مع أفريقيا التابع لوزارة الخارجية المصرية، وإنه آن الأوان لأن تخرج «مبادرة حوض النيل» من المنظور الضيق الذي يحصرها في إطار مبادرة للمياه فقط إلى اعتبارها مبادرة للتنمية الشاملة. وعلى هامش الاجتماعات سألت «الحياة» حسن يونس وزير الكهرباء المصري عن مشروعات الربط الكهربائي في دول النيل الشرقي، فقال إن العمل يسير بقوة وإن مشروع الربط الكهربائي بين السودان وأثيوبيا على وشك الانتهاء، موضحاً أن مصر تقدم خبراتها الفنية والتقنية في هذا المجال من خلال مكتب التعاون الفني المصري - السوداني - الأثيوبي (الانترو). وعن دول المنبع الجنوبي للنيل مثل كينيا وأوغندا واحتياجها للطاقة قال إن ذلك مدرج بالفعل في خطتنا وسنعمل عليه قريباً، ولكن لا يمكن أن نبدأ قبل أن ننهي العمل في النيل الشرقي لنستطيع بعد ذلك ربطه بالجنوب، وقال إن هناك مشروعات لتوليد الطاقة الشمسية يمكن أن تنفذ في دول الحوض. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هل يمكن أن تنجح هذه المشروعات التنموية وأن تقترب وجهات النظر في دول حوض النيل لتتحد حول المياه والتنمية على نحو يستمر طويلا من دون وجود تعاون ثقافي تعليمي إعلامي والاهتمام بالتنمية الثقافية ومد جسور المعرفة التي تنطلق من علاقات تاريخية وثيقة ومن دون أن تمتد آثار هذه الجسور للرأي العام و رجل الشارع في بلاد حوض النيل؟ رداً على هذا السؤال أكدت السيدة فايزة أبو النجا وزيرة التعاون الدولي المصرية ل»الحياة» أهمية التعامل مع المياه على أنها جزء من التنمية الشاملة التي تحتاجها دول حوض النيل، مشيرة إلى أن هذا ليس جهد حكومات فقط فالقطاع الخاص له دور محوري ليعي الأهمية الاستراتيجية لدول حوض النيل، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني.