كثيرون من المصريين يعترفون هذه الأيام بأنهم كانوا يقرأون النسب والإحصاءات الخاصة بتركيبة الشعب المصري العمرية بعيونهم فقط. لم يدركوا يوماً دلالات أن يكون نصف شعب مصر من الشباب. يقرون اليوم بأنهم كانوا يتابعون أخبار غرق مراكب الهجرة غير الشرعية التي تقل شباب محافظات وقرى بعيدة في عرض البحر المتوسط تماماً كبقية الأخبار الواردة في صفحة الحوادث عن مقتل عامل وغرق راكب ورشوة موظف. يواجه المصريون أنفسهم اليوم بأن ما اعتبروه بالأمس ظاهرة سكانية عادية ومشكلات حياتية معتادة لم تكن كذلك، ولم يكن ينبغي لهم أو لكل من حولهم أن يعتبروها أمراً طبيعياً يمر مرور الكرام. كثيرون لم يلتفتوا إلى ما يسمى ب «الانتفاخة المصرية الشبابية» التي يموج بها المجتمع منذ سنوات، ولم تستوقفهم كثيراً نسب البطالة والفقر وضيق ذات اليد التي باتت تشكل حاضر نصف المصريين ومستقبلهم. قبل أيام وبدلاً من أن تحتفل مصر باليوم العالمي للشباب (12 آب/أغسطس) بالإعلان عن المشاريع الوطنية الجبارة الموجهة لخدمة الشباب المصري التي تم بدء تنفيذها اعترافاً بفضل الشباب الذين أطاحوا نظاماً فاسداً، أو بالإشارة إلى اختيار المبادرات المئة الأفضل التي تقدم بها الشباب بهدف مواجهة قنبلة البطالة التي ظهرت عليها بوادر الانفجار أو لغم الفقر الذي يهدد بإصابة الجميع في مقتل، أو بمواجهة شبح الجهل والأمية الذي يحكم قبضته على كثيرين بمشروع وطني يشترك فيه الجميع من أجل مصلحة الجميع، فوجئ الجميع بنسب وأرقام مفزعة تطل عليهم لتعلن أن كل ما كان يصنف تحت بند «قنابل موقوتة» و «مشكلات تنتظر الانفجار» و «ملفات حساسة تنذر بكارثة» انفجر بالفعل أو كاد. الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أعلن قبل أيام في مناسبة الاحتفال باليوم العالمي للشباب أن عدد الشباب في مصر بلغ 20 مليون شاب تتراوح أعمارهم بين 18 و29 سنة، ما يمثل 24.3 في المئة من إجمالي عدد السكان في عام 2011. وأعلن الجهاز أن ما يزيد على نصف أولئك الشباب مصنفون ضمن قائمة الفقراء. ف27 في المئة منهم يعانون الفقر، و42.3 في المئة يقتربون من خط الفقر، بينما نجا 48،7 في المئة من شباب مصر من اكتساب لقب «فقير». عاش كثيرون في وهم الاعتقاد بأنهم يعرفون معنى الفقر من خلال رؤية البواب (حارس العمارة) وأبنائه، أو عمال النظافة الذين يعملون نصف الوقت ويشحذون في النصف الآخر، لكنهم اكتشفوا أن ما كانوا يعتقدونه فقراً ليس إلا مسحة واحدة من ملامح الفقر. فقد طفحت ملامح الفقر الشبابي المختبئ على الساحة ليراها الجميع رؤى العين بعد الثورة وبلغت أوجها هذه الأيام، لا سيما في ظل غياب الأمن وتعثر الاقتصاد. تامر (22 سنة)، أحد دافعي فاتورة غياب الأمن وانتشار الفوضى، فقد فقد عمله ووجد نفسه قاب قوسين أو أدنى من المبيت في الشارع. فقد كان تامر محسوباً على قطاع السياحة. وحين تعثر القطاع، كان أول المتضررين. يقول: «كنت أقف بأوراق البردى ونماذج مقلدة من التماثيل الفرعونية أمام المتحف المصري في التحرير لأبيعها للسياح. كنت أكسب جنيهات قليلة، لكنني كنت أكسب ما يكفي لأشارك في إيجار الغرفة التي أبيت فيها مع أربعة غيري. اليوم لم يعد هناك سياح ولا جنيهات أدفع بها نصيبي في إيجار الغرفة ولا يمكنني العودة إلى بلدتي في الصعيد مرة أخرى، فوالدي كان سعيداً بقرار هجرتي إلى القاهرة لأخفف عنه حمل الأسرة الكبيرة». تامر لا يفصح عن مصدر رزقه الحالي، لكنه يكتفي بالقول إن «ولاد الحلال ما زالوا موجودين». إلا أن الاعتماد على أولاد الحلال وتدبير الله تعالى فقط لا يؤمنان معيشة كريمة للملايين من الشباب العاطلين من العمل، وتقدر نسبتهم ب24.9 في المئة من الشباب ممن تراوح أعمارهم بين 18 و29 سنة (18،7 في المئة بين الذكور و44.6 في المئة بين الإناث). وتفوق الشابات على الشباب في نسب البطالة ليس ظاهرة جديدة، لكنه في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة مؤشر إلى تغييرات كبيرة في المجتمع. فالنسبة الأكبر من بطالة الشابات منتشرة بين الحاصلات على مؤهل متوسط، إذ تبلغ النسبة أكثر من 65 في المئة. هذه الفئة تلجأ إلى الإسراع بتكملة تعليمها المتوسط من أجل الإسراع أيضاً إلى سوق العمل لمساعدة أسرهن. شريفة (20 سنة) حاصلة على دبلوم فني متوسط، كانت تعمل بائعة في محل تجاري في وسط القاهرة، إلا أن الركود في حركة البيع والشراء التي نجمت عن الثورة جعلت صاحب المحل يستغنى عنها وعدد من زميلاتها. ولأنها لا تملك رفاهية الجلوس في البيت لحين تحسن الأوضاع أو العثور على فرصة عمل شبيهة، لجأت إلى العمل المنزلي، ولكن سراً «خوفاً من الفضيحة». لكن فضيحة الشباب الحاصل على مؤهلات عليا ولا يجد فرصة عمل مناسبة أو حتى غير مناسبة أكبر بكثير، وهي تقع على عاتق المجتمع الذي ظن أن الشهادة الجامعية خير ضمان من شبح البطالة. وأكدت النسب المعلنة من قبل الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن البطالة بين الذكور الحاصلين على مؤهل جامعي وأعلى هي الأعلى إذ بلغت 33 في المئة، وأن خريجي الكليات النظرية هم الأكثر معاناة من البطالة بنسبة 80 في المئة، مقارنة بخريجي الكليات العملية بنسبة 20 في المئة. وعلى رغم أن مثل هذه النسب الدقيقة غير متوافرة في شأن آلاف الشباب الذين يجولون شوارع القاهرة الكبرى هذه الآونة سواء على دراجات نارية أم كسائقي «توك توك» غير مرخص ولا قانوني وغيرهم ممن يتواجدون بكثافة في الميادين والشوارع، تتفاقم المشكلة من دون رؤية مستقبلية واضحة. في حي شبرا الشعبي خرجت آلاف المركبات المسماة بال «توك توك» من سرية العمل في الشوارع الجانبية والحارات المسدودة لتعمل نهاراً جهاراً في الشوارع الرئيسية، والغالبية المطلقة منها يقودها شباب وأطفال أغلب الظن أنهم ليسوا مندرجين لا في نسب البطالة ولا في نسب العمالة. شوقي (16 سنة) يقود إحدى هذه المركبات. يقود بيد، ويدخن باليد الأخرى، وتبدو على ملامحه علامات السعادة بما يقوم به من ترويع لسائقي السيارات بقيادته عكس الاتجاه وبسرعة كبيرة. ينفي عن نفسه صفة الفقر، ويقول: «لا طبعاً لست فقيراً. أنا كسيب وزمن الخوف من الحكومة انتهى. والرزق سيتوافر للجميع»! لكن ما يعتبره شوقي رزقاً وكسباً هو في عرف القانون عمل ممنوع وغير قانوني. وصحيح أن الجنيهات التي يكسبها يومياً – والتي لا تتعدى العشرة - لا تندرج تحت بند «فقر مدقع» بحسب توصيف البنك الدولي الذي حدد السقف بدولار وربع أو أقل في اليوم، لكنها في الواقع تندرج تحت بند «فقر شديد» بحسب توصيف العين المجردة. شباب مصر والبطالة والفقر والأمن ملفات على صفيح ساخن تنتظر الكثير من القائمين على الأمور في مصر الجديدة، مصر ما بعد ثورة الشباب الذين أشعلوها ثم عادوا أدراجهم، كل إلى حياته ومشكلاته أو فقره أو بطالته!