حلت أمس (الثلثاء) الذي يوافق 15 آب (أغسطس) الذكرى الثانية لرحيل الشاعر والأديب والوزير غازي القصيبي، الذي رحل قبل عامين تاركاً إرثاً أدبياً وفكرياً وثقافياً قلّما يتوافر لأديب أو مفكر. ولعل ما يشغل قرّاء صاحب «العصفورية» إلى اليوم، سؤال: كيف استطاع هذا الرجل أن يكتب في حقول مختلفة وبالمستوى نفسه من العمق والجدية والطرافة؟ يتكرر هذا السؤال من دون أن نحظى بإجابة تشفي الغليل، لكن العزاء أن قرّاءه يتكاثرون ومبيعات كتبه في ازدياد حتى بعد رحيله، بل إن رحيله وفقاً إلى أحد المثقفين يعد مناسبة لتذكر كتبه والإقبال عليها، كما هو يمثل أيضاً فرصة لاستعادة مآثره ومحطات من حياته. عضو مجلس الشورى الأديب حمد القاضي قال: «إن الجانب الإنساني هو أهم سمات شخصيته، بل هو مفتاحها غازي القصيبي، «إنسان» بكل دلالات هذه المفردة وحمولاتها، إنه على رغم كل ما أحاط به من شهرة وتولى الكثير من المناصب وصعد المنابر متحدثاً أو محاضراً أو حاصداً للجوائز بقي «إنساناً» لم يتبدل أو يتغير، لم تشغله كل هذه الأضواء والمناصب والألقاب عن رسالته في الحياة بوصفه «إنساناً»، هذا الجانب لا يُعرف عنه كثيراً، كما عُرف كونه وزيراً ومثقفاً وسفيراً إلخ، والسبب في غياب أو تغييب هذا الجانب يرجع إلى الدكتور غازي - رحمه الله - نفسه، فهو لا يحب أن يظهر أو يذاع أو ينشر». وأضاف القاضي في حديث ل«الحياة»: غازي القصيبي هويته «الإنسان»، وقد تماهي «الحسّ الإنساني والخيري» في أعماله ومناصبه ومراكزه كافة وفي تفاصيل حياته كلها، روى لي الصديق الدكتور عبدالواحد الحميد نائبه بوزارة العمل مواقف مؤثرة، تتخضّب بالوهج الإنساني سواء مع المراجعين أم مع الموظفين وصغارهم تحديداً، فمع المراجعين فإن هذا الرجل القوي يضعف عندما يأتيه رجل كبير في السن أو أي شخص تبدو عليه سيماء الضعف، فتجده يوافق على ما يطلبه من تأشيرة أو غيرها من دون أن يتأكد من حاجة هذا الشخص لما طلبه، فهو يغلب جانب الصدق في طالب الخدمة وجانب الرحمة في قلبه كمسؤول، أذكر عندما تولى - رحمه الله - وزارة الصحة، قلت في مقال لي أن قائل هذا البيت: «وإن سهرت مقلة في الظلام/ رأيت المروءة أن أسهرا هو من تنطبق عليه مواصفات من سيكون وزيراً للصحة، فهذا العمل يتعامل مع المرضى ومع الناس في حالات ضعفهم ومرضهم». وفي وزارة الصحة تحديداً أعطى غازي كل وقته وجهده، وعمل على أن يصبغ هذا العمل بالمحتوى الإنساني في كل عمل أنجزه أو قرار أصدره». واستعرض الكاتب عقل العقل تجربة شخصية مع الدكتور غازي القصيبي عندما كان سفيراً في لندن، قائلاً: «تزامنا مع فترة عمل القصيبي سفيراً في بريطانيا، كنت أعمل في المكتب الإعلامي السعودي هناك، وعلى رغم من أننا لم نكن على اتصال يومي معه، إلا إننا كنا نلتقيه في مجلسه الأسبوعي بالسفارة، الذي خصصه لأعضاء البعثة الدبلوماسية السعودية والمواطنين الذين يتواجدون هناك و الطلاب و المرضي، وكان أغلب من يحضر إلى لندن حينها يلح في رغبة اللقاء به، ومن هذه الجلسات يمكن القول إن القصيبي حين تلتقي به مباشرة تزداد محبتك واحترامك له، فما ينادي به من مثل وقيم ومبادئ في كتاباته هي متجسدة في شخصه وتصرفاته على أرض الواقع، وهذا في اعتقادي أحد أسرار نجاحه، فالرجل لم يكن متناقضاً مع ذاته بل على العكس، فهو بالواقع أكثر إنسانية ومحبة للناس بجميع أطيافها». وأشار العقل ل«الحياة» إلى «أن الراحل لم يكن يتململ من زوّاره، ويلتقيهم بمحبة وتقدير، يقوم لكل زائر، ويمضي بعض الوقت معهم للسؤال عن حاجات، والاستماع لأية مشكلة تواجههم، ويخصص لهم مكاناً للحديث معه، ومدير مكتبه ينسق معه قوائم وأولويات المواطنين، ويتعامل معها بخصوصية بالغة، وفي أحد أحاديثه عن الأدب كان يقول: «إن مقياس الجودة في الإبداع الأدبي بأشكاله المتعددة سيكفلها الزمن الذي يحكم على أصالة هذه الرواية أو تلك القصيدة، أما الوقت الحاضر فإن الاحتفالية بمنتج أدبي معين تكون إبداعية حقيقة أو لظروف آنية معينة، وكان يستشهد بالمتنبي وكيف بقيت قصائده، وستبقى شاهدة على إبداعه الحقيقي على رغم مرور السنين»، مؤكداً على أن إنتاج القصيبي سيصمد، ويبقى حاضراً شاهداً على جمال إنتاجه الأدبي وإبداعه الشعري. أهمل الفروق البروقراطية وأوضح العقل «أن براعة القصيبي ظهرت كإداري و إعلامي، حين كان المكتب الإعلامي يعاني من ضعف في الأداء لأسباب متعددة، وبعبقريته الإدارية والإعلامية استطاع أن يجعل له دوراً مميزاً، حين قرر أن تكون هناك محاضرة شهرية تُقام في المركز الإعلامي، وكان بإمكانه أن يقيمها في مبني السفارة، الذي كان يحتوي على قاعات أكبر وأكثر تهيئة، ولكنه يؤمن بالتخصص، وأن هذه هي وظيفة المكتب الإعلامي، وأهمل الفروق البيروقراطية، و تكفل بالمصاريف المالية المترتبة على إقامة تلك المحاضرات والندوات، ولقد كان له دور في اختيار الضيوف المشاركين في تلك الفعاليات، وكان جلّهم من رجال الإعلام والسياسة والثقافة من البلد المضيف بريطانيا، إضافة إلى بعض الرموز العربية في مجالات متعددة من شعر ورواية وعلوم فضاء وإعجاز القرآن العلمي، وغيرها من المواضيع». أما الروائية أميمة الخميس فتقول عن صاحب «الحمى»: «أهديته نسخة من روايتي «البحريات»، وتأخرت عن إرسال نسخة من روايتي «الوارفة»، فأتتني منه رسالة خضراء مع مجموعة من آخر إصداراته»، مشيرة إلى أنه «كان هو ذلك الشاسع الممتد فوق تضاريس البلاد، كان يشعر بأن حدود مسؤوليته لا تنتهي بخطة استراتيجية يدفعها لوزارته أو ديوان شعري يسربه للمطابع أو نزال فكري عاصف يطوق مورد القوافل التي اشتجرت على منابع الماء، بل كان يحرص على أن يلوح لأية سدرة تقرر أن تقارع الجفاف وتنازل الرمال، كان قصّاص الأثر الذي يتقصّى أحوال الماء في الجزيرة، ويستنطق الغدران والعيون حول احتمالات المستقبل». ومما جاء في رسالة القصيبي إلى أميمة نورد الآتي: «الأخت الكريمة الأستاذة أميمة الخميس حفظها الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، انتهيت للتوي من قراءة «الوارفة»، ولم تصلني هدية من المؤلفة هذه المرة! في هذه العمل الجميل تصوير مأسوي دقيق لمأساة الطبيبة السعودية.. وكل سعودية في وضعها هنّ الصحراويات/ البحريات/ الجبليات المتأرجحات بين أشجار البيت العتيق في عليشة.. وأشجار الكرسمس في المستشفى العتيق في تورنتو.. استغرقتني الرواية، وشعرت في نهايتها بشيء من الحزن - والغريب أن قراءة الروايات الجميلة تنتهي دوماً بالحزن، ربما لأن أية رواية جميلة لا بد أن تكون حزينة، وربما جاء الحزن من انتهاء عمل لا تود له أن ينتهي، وربما كان الحزن لأن العالم بأسره حزين...». ويجد الشاعر والأديب أحمد اللهيب صعوبة في الحديث عن الراحل، لكنه يقول: «في ذكراه يتوجع القلب إن فقد رمزا من رموز هذا الوطن الغالي، فالقصيبي الشاعر كان حاضراً بكل عطاءاته ومتفاعلاً مع كل الاتجاهات الشعرية التي ظهرت في الشعر العربي الحديث، منذ أن تجلت حركة الإحياء، ومروراً بالمدرسة الرومانسية التي تأثر فيها برموزها ناجي والشابي وغيرهم، وتفاعلاً مع المدرسة الواقعية وشعراء الحداثة والرمز، وكان كل ذلك يتجلى في شعره وفي دواوينه الشعرية، بدءاً من أول مجموعاته الشعرية «أشعار من جزائر اللؤلؤ»، وهو يمثل انطلاقة جميلة في الشعر السعودي، وإن طغت عليه الرومانسية، أما القصيبي الروائي فيمثل انطلاقة رائعة في «شقة الحرية» و«العصفورية» و«أبو شلاخ البرمائي»، وهي أعمال تستحق التأمل، والنظر فيها باعتبارها وثائق إبداعية متباينة، فالقصيبي الروائي لا يؤمن بخط إبداعي واحد في كتابة الرواية مثل كثير من الروائيين، فكل رواية لديه تأتي بروح مختلفة ونفس إبداعي، لا يتقاطع مع غيرها بل هي نسيج إبداعي مختلف، أما القصيبي الكاتب فهو ناثر رائع بأسلوب سهل ممتع، يقترب من القارئ، ويجعله في محيطه!». وأعرب اللهيب أن ذكرى وفاته مؤلمة، وقال: «ما سعدتُ به في حياة غازي القصيبي أن عملتُ له دراسة في شعره بعنوان «المرأة في شعر غازي القصيبي»، وقد لقيت إعجابه واستحسانه، وكان تواصلي معه ببعض الرسائل التي وجدت فيها توجيهاً وتشجيعاً، فكان أباً روحياً على رغم من انشغالاته وارتباطاته العملية والسياسية، إلا أنه لم يكن يبخل علي بالرد السريع على كل الرسائل التي بعثتها له».