غريب أمر الشهر الكريم! يحمّله الجميع ما لا يحتمل. فيظل لعقود يحمل وجهاً فزورياً حزورياً، حتى بات القاصي والداني في العالم العربي يسمونه «شهر الفوازير»! ثم أخذت فزورة رمضان الشهيرة في التآكل والانقراض ولكن ليس قبل أن ينجح التلفزيونيون في تحويل الشهر إلى شهر المقالب والخناقات المفتعلة الناجمة عن مواقف مفبركة. وهكذا لأن برنامجاً نجح في رسم البسمة على الشفاة بعد ما تم استنساخه من برامج غربية تعتمد على إخفاء الكاميرات وتصوير المارة في مواقف سخيفة دون علمهم، تحوّل رمضان إلى شهر لبرامج المقالب. وكالعادة، تحول النجاح إلى هوجة، وصار كل من لا يمتلك فكرة أو لديه ابتكار يفبرك مقلباً حتى دق المشاهدون مسمار الملل والسأم في نعش برامج المقالب لتتوقف عن سخافاتها. ومنذ ظهور التلفزيون في المنطقة العربية، ورمضان هو الوجه الآخر للدراما التلفزيونية، منذ كان مسلسل واحد يجذب ملايين العرب وحتى عصر الانفجار المسلسلاتي حيث أصبح لكل فرد مسلسله المفضل. وجرى العرف الرمضاني التلفزيوني أن يكون هذا الشهر شهر اعتكاف سياسي منزهاً عن معضلات الاقتصاد ولوغاريتمات المشكلات الدولية والإقليمية، وبالطبع الداخلية، ويتعامل معه الجميع باعتباره مناسبة للشحن الدرامي والانغماس الحواري الفني لمعرفة أدق تفاصيل حياة هذا الفنان أو ذاك، بالإضافة إلى بعض من برامج الطهي والفتاوى الدينية المعتادة التي تتطرق إلى حكم وضع القطرة في العين في نهار رمضان ومغبة الخيام الليلية في مسائه! لكن رمضان 2012 كسر القواعد ورفع شعار الثورة وأعلن أنه هو الآخر جزء لا يتجزأ من رياح الربيع العربي التي تعصف بأنحاء عدة من دول المنطقة. وعلى رغم التخمة الدرامية غير المسبوقة من المسلسلات، إلا أن الكثير منها ارتدى عباءة عصر ما بعد الثورات محاولاً القيام بدور سرد تاريخي لم ينضج بعد لما ألم بالعالم العربي. إلا أن التغيير الحقيقي في رمضان 2012 هو عدم احتجاب الكثير من برامج ال «توك شو» السياسية والإخبارية التي جرى العرف الرمضاني على اختفائها طيلة ال 30 يوماً الكريمة. ويبدو أن البعض من هذه البرامج قرر الاعتكاف كالعادة، إلا أن تسارع الأحداث وتواتر التغييرات جعلاه يعدل عن القرار ويصبح «ستاند باي» للاستجابة الفورية لدى حدوث طارئ سياسي، وهو ما بات يتكرر بصفة شبه يومية منذ بداية الشهر الكريم. حتى المشاهدون الذين تنفسوا الصعداء لقدوم الشهر الكريم الذي اعتقدوا أنه سيفرض عليهم عزلة سياسية خبرية إجبارية بعد ما أنهكتهم شهور من المتابعة والانغماس في الأحداث الساخنة المتلاحقة في منطقتهم وفي داخل بلدانهم وجدوا أنفسهم يصولون ويجولون في هذا المسلسل أو ذاك، ثم يعودون مجبرين لملاحقة الأحداث الجلل ومتابعة الأخبار وكأن رمضان لم يكن. لأن الثورات مازالت مستمرة.