يأتي موفد المرشد الأعلى للثورة الإيرانية سعيد جليلي، ليؤكد من دمشق أن طهران لن تسمح بكسر محور المقاومة، وأن دمشق ضلعه الأساسي. وتزامناً مع زيارة الموفد الإيراني، تحذّر وزارة الخارجية الأميركية من انزلاق سورية إلى حرب طائفية، ومن احتمال دخول إرهابيين للمشاركة في الحرب!... الأكيد أن تصريحات الخارجية الأميركية تأتي مخيّبة لآمال السوريين المستهدَفين بالتهديد الإيراني، ولعلها في الجزء الثاني منها، تمنح صدقية لخطاب النظام الإعلامي، وذلك مع عدم نفي الصدقية عن التحذيرات الأميركية وإن كانت تتجاهل المسؤولية الدولية عن المآل الذي تنذر به. ما كان منتظَراً من السوريين أن يبادروا سريعاً إلى طلب التدخل الخارجي، بخاصة من دول كانت تصنَّف عدوةً وفق المزاج العام. وليس سراً أن المعني الأكبر بالتدخل، وهو الولاياتالمتحدة، العدو الأكبر بمنظار الأمس، أصبح الحليفَ المنتظر. هذا تحول دراماتيكي لدى جمهور تأسست قناعاته السياسية على العداء لإسرائيل وللقوة العظمى الحامية لها. لكن الإدارة الأميركية لم تتلقف هذه البادرة بحماسة، ولمدة طويلة أصرّ الناطقون باسمها على التذكير بأن التدخل العسكري في سورية غير وارد في حساباتها، ولم ترقَ لغة الإدارة إلى الحد الذي ينذر النظام بعواقب مؤثّرة حقاً لو استمر في نهجه القمعي. قد يفتح سلوك الإدارة الأميركية على تأويلات شتى، منها عجزها الفعلي عن الضغط على النظام من الداخل، ومنها أيضاً أنها ليست بتلك القوة العظمى ذات القدرة المطلقة، كما يتخيلها بعضهم، إلا أن هذه الاعتبارات لا تشفع لها في نظر أولئك الذين يكابدون من القمع ما بات يفوق الموت. طلبُ الحماية من أميركا ليس طارئاً تماماً، إذ سبق أن وُضعت في مكانة متأرجحة، فهي العدو الذي يرعى المعتدي الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته العدو الذي تُطلب شفاعته للجم المعتدي، كنوع من تحميلها المسؤولية الجرمية عن العدوان الخارجي. أما أن تُستدعى أميركا اليوم بوصفها حامياً من الديكتاتورية، فالأمر لا شك سابقةٌ تضعها في مرتبة أعلى على سلم المسؤولية الإنسانية، وتدلل أيضاً على انزياح في وعي السوريين يتجاوز رد الفعل الناجم عن القهر. فاستدعاء أميركا، والغرب عموماً، ترافَقَ مع مجموعة مطالب نادت بها الثورة السورية تنسجم بمجملها مع المنظومة الحقوقية المعاصرة كما روجت لها ودافعت عنها الحكومات الغربية طوال عقود. من وجهة النظر هذه، سيسقط الغرب في امتحان الصدقية، وتأتي الخشية الأكبر من سقوط بعض نقاط الالتقاء المضيَّع، أي إذا تهاوى جزء من المنظومة التي نادت بها الثورة بفعل تخلّف الغرب عن دعمها. كان مفهوماً، بحكم المفاجأة، ألاّ تواكب الولاياتالمتحدة ثورات الربيع العربي منذ بدايتها، وألاّ تنحاز بقوة إلى الشارع الذي طالما عُرف بأنه أكثر راديكالية تجاهها من الديكتاتوريات القائمة، ولا ريب في أن لها مخاوفها القديمة، تحديداً تجاه الكتلة الإسلامية التي سرعان ما حصدت ثمار الثورتين التونسية والمصرية. في سورية يبدو الأمر مختلفاً، إذ لم يكن هناك وجود منتظم للإسلام السياسي في بداية الثورة، ولم يتفهم الغرب طبيعة الإسلام المجتمعي المعتدل الذي شارك فيها، ولم تتباين مطالبه عن المطالب العامة التي يمكن وصفها بالليبرالية عموماً. هنا كان في وسع الولاياتالمتحدة والغرب عموماً، استباق التحول المحتمل من إسلام مجتمعي إلى إسلام سياسي، خصوصاً لأنه لن يكون في منجى من التطرف والطائفية في ظل القمع الوحشي الذي يفرضه النظام. إن الشعور العام بالخذلان، نتيجةَ تأخر الغرب في دعم القيم التي تتقرب بها الثورة منه، كان لا بد أن ينعكس سلباً على المنظومة القيمية للثورة ذاتها. حدث هذا بسبب اليأس الذي تسرب إلى نفوس كتلة كبيرة من الثوار، وحدث أيضاً بسبب توافر المساحة الزمنية لانتظام قوى تريد أيضاً الإطاحة بالحكم وفق أيديولوجيتها، بخاصة الإسلام السياسي. أي أن الحضور الإسلامي المتعاظم لم يكن محتماً هذه المرة إلا لأن الغرب تلكأ في التدخل فأضعف المنظومة السياسية والحقوقية الأقرب إليه، وربما تكون إحدى المفارقات المكلفة أنه لم يسعَ فعلياً لمواجهة مبكرة مع ما يخشى منه، وهذا ما قد يضطر إليه بعد أن تتجسد مخاوفه واقعياً. تسلُّل الإرهابيين الذي تحذر منه الخارجية الأميركية لم يعد مستبعداً، بعد انكشاف الثورة السورية على المؤثرات الإقليمية والدولية. ففي ظل غياب اللاعب الأكبر تكاثر اللاعبون الصغار، ومن اللافت أن العسكرة الاضطرارية للثورة تزامنت مع تسلل تطرف إسلاميين إلى بعض صفوفها، وكالمعتاد لم يتأخر قسم من المتطرفين عن إعلان نيات الهيمنة على الثورة برمتها. على رغم ذلك، ليست أسلمة الثورة برزخاً إجبارياً، فمن الدلالات الحميدة للانتخابات الليبية أنها أتت بقوى ليبرالية إلى الحكم، ولعل ذلك يشير إلى حصاد التدخل الغربي السريع هناك، مع التنويه بأن النموذج الليبي كان الأقرب إلى الواقع السوري من حيث شدة الطغيان، مع افتراق لمصلحة المجتمع السوري بوصفه أكثر تعددية وتنوعاً. في جانب منها، مثّلت الثورة توق السوريين للدخول في منظومة العصر، ولم تُجرِ عملية فرز بين أصدقائها وأعدائها وفق المحاور المكرسة إلا اضطراراً. وبالطبع ليس مستغرباً أن يهبّ حلفاء النظام لنجدته بما أنهم يتلاقون معه في الأفق الديكتاتوري ذاته. المستغرب هو أن تتقاعس القوى الديموقراطية عن اغتنام الفرصة التاريخية لدمج السوريين في محيطهم الدولي الذي غُيّبوا عنه طويلاً. لقد دفعت الثورة سيلاً من الدماء لقاء تأخر الغرب عن تقديم الدعم الفعلي، وربما تكون الفاتورة اللاحقة باهظة، لجهة تأخر الانتقال الديموقراطي في سورية بعد سقوط النظام، الأمر الذي سيشكل خسارة مديدة للثورة وللغرب معاً. في إطار انتقادها الموقف الروسي من الثورة، نصحت الديبلوماسية الأميركية الروس بألاّ يصطفوا على «الجانب الخاطئ من التاريخ». في المقابل، سيكون من الوجاهة انتقاد الولاياتالمتحدة، والغرب عموماً، بأنه لا يكفي أن تكون في الجهة الصائبة من التاريخ، بل يجدر بها أن تكون من صنّاعه.