تكثر في المناقشات السائدة الشعارات والادّعاءات والأيديولوجيات على حساب الإحصاءات والمعلومات والمعطيات، إذ يتم التعامل مع القضايا بالجملة ومن دون التفاصيل، وبالعمومية ومن دون البحث في الخصوصيات، وبيقينية من دون محاكمات عقلية، وحسابات للكلفة والمردود! يمكن إحالة ذلك على عوامل عدة، منها أن النظم السائدة غيّبت المعلومة وأخفت الإحصائية، لاعتبارها إياهما شأناً من شؤون «الأمن القومي»، وأمراً يخصّ الحاكم، ولا علاقة للعوام به. كما تُمكن إحالته على غلبة «البطركية» السياسية، والإنشاءات الخطابية، والعقائد الأيديولوجية، في عمل التيارات والكيانات السياسية، وأيضاً إلى سيادة الروح العاطفية، والعصبية، على حساب العقلانية والعلمية والموضوعية. هكذا باتت تُستقبل الإحصائية بنوع من الصدمة، فتبدو لبعضهم بمثابة اكتشاف مدهش، ينبغي الاحتفاء به، بينما تبدو لآخرين بمثابة خرق للمحرمات والممنوعات، قد يبعث كشفها على الإحباط، أو قد يكشف فضائح لا داعي لها. وبديهي أن يصبح الأمر بالغ الخطورة، ويثير التشكك والريبة، عند بعضهم، إذا كانت تلك الإحصاءات تخص مقارنة أحوالنا بالعدو التاريخي اللدود إسرائيل، حتى لو ذكر ألف مرة أنها مجرد دولة مصطنعة وغير شرعية واستعمارية وعنصرية ومجرمة. ففي هذا الإطار ثمة من يعتبر أن ثمة نقيصة، أو إهانة ما، في مجرد التجرؤ على عقد مقارنة كهذه، وهو اعتبار يصدر عن عقلية تعصبية وإنكارية، تدّعي تفوقاً أخلاقياً ما، وتعتقد بأن تجاهل ميزات إسرائيل يحطّ من قدرها، ويقلل من أهمية نقاط تفوقها الواقعية. ومشكلة هذه العقلية تجاهلها أن أبجديات الصراع مع إسرائيل تفترض ملاحظة نقاط قوتها والتعامل معها على هذا الأساس، وأن المسؤولية السياسية والأخلاقية في الفجوة الحاصلة مع الدولة العبرية إنما تقع على عاتق الأنظمة ذاتها. مثلاً، تبين إحصائية «قاعدة بيانات شهداء الثورة السورية» أن 22 ألفاً من السوريين قتلوا في 17 شهراً (موثقين بالأسماء وبالأماكن وبالتواريخ في كل يوم)، وأن عددهم في الشهر الماضي وحده، تموز (يوليو)، بلغ 3634 شهيداً، وهو أعلى معدل لعدد الشهداء منذ بداية الحراك السوري. والحال، إن هذه الإحصائية مثيرة للاهتمام، بكل المقاييس من ناحية العدد، ومن ناحية شكل القتل، ومن ناحية هوية القاتل، لكنها تثير الاهتمام، أيضاً، من ناحية مقاربتها لمجمل عدد القتلى الإسرائيليين ال 21500، الذين قتلوا، منذ قيام دولة إسرائيل. مع ذلك، فإن تشابه العدد لا يطمس الفارق، ذلك أن قتلى إسرائيل هؤلاء قتلوا في الحروب العربية - الإسرائيلية (1948-2012)، وفي عمليات المقاومة (الفلسطينية واللبنانية) وفي الانتفاضتين الأولى والثانية، أي على امتداد 64 سنة، وليس بمجرد سنة ونصف سنة تقريباً، كما حصل بالنسبة إلى الضحايا السوريين. أيضاً، ثمة فارق نوعي ثانٍ، وهو أن إسرائيل لا تقتل شعبها، وإنما على العكس، فهي ضنينة بكل نقطة دم يهودي حتى لو كان في بلاد الواق واق، وهي حريصة على حياة اليهود، سواء كانوا من مواطنيها أم من مواطني أي دولة في العالم. والفارق الثالث أن النظام السوري الذي منع المقاومة من حدوده الجنوبية منذ 1973، لم يطلق رصاصة واحدة من الجولان منذ أربعة عقود، لتحرير ارضه، أمعن في قتل شعبه وفي تدمير مدنه وتبديد مقدراته، وبلا أي حدود. والفارق الرابع، أن إسرائيل هذه لم تقتل من العرب (وضمنهم الفلسطينيون) كل هذا العدد. وعلى سبيل المثال، ففي الانتفاضة الأولى، التي استمرت ست سنوات (1987- 1993) سقط 1600 من الفلسطينيين، بمعدل 275 في السنة. وفي الانتفاضة الثانية التي تخللتها عمليات مقاومة مسلحة، لا سيما وفق نمط العمليات التفجيرية، واستمرت خمس سنوات (2000 2004) لقي 5000 فلسطيني مصرعهم، بمعدل ألف في السنة. وطبعاً، هذه الإحصائيات لا تقلل من جرائم إسرائيل، ووحشيتها، لكنها تفضح في المقابل واقع النظام الاستبدادي السوري، الذي يستبيح شعبه من دون أي رادع، وبطريقة مروعة. المشكلة أن مقارنات كهذه تثير حساسية بعضهم بدلاً من أن تثير عنده الأسئلة عن مغازيها، كما أن هذا البعض في غمرة انشغاله بالإحصائية يتجاوز المعنى الأكثر إيلاماً لها، وهو أن إسرائيل لم تقتل أحداً من شعبها، وإنما قتلت ممن تعتبرهم أعداءها، في حين أن النظام السوري لم يقتل من أعدائه، لكنه حرك أجهزته الأمنية وقواته العسكرية التي من المفترض أنها بنيت لدحر الاحتلال ومواجهة إسرائيل، في مواجهة شعبه، وهذا فارق في غاية الأهمية. لذلك، فإن المشكلة من الناحية الأخلاقية لا تكمن في طرح هذه الإحصائيات لأن الواقع المعاش اشد إيلاماً بكثير، وأكبر صدمة بكثير، من مجرد ذكر أرقام على الورق. بل إن ذكر هذه الإحصاءات يفيد في كشف حال المخاتلة والتلاعب والتوظيف للقضية الفلسطينية ولقضية المقاومة، من جانب النظام السوري الذي لا يهمه شيء اكثر مما يهمه البقاء في سدة السلطة. لا شيء يبرر قتل كل هذا العدد من الناس، لا المقاومة، ولا أية قضية أخرى، مهما كانت نبيلة. فالقضايا النبيلة لا تفترض محو الشعب ولا مصادرة حريته ولا امتهانه، ولا قتله بالتأكيد. حتى في معيار المقاومة، سورية لم تفعل شيئاً على هذا الصعيد، حيث لم تطلق طلقة من الجولان، منذ 1973. أما بالنسبة إلى المقاومة اللبنانية، وهي مختصرة في «حزب الله»، فإن جميع القتلى الإسرائيليين الذين سقطوا في عمليات المقاومة اللبنانية (في الفترة 1983 2000) بلغ حوالى 860 إسرائيلياً، في 17 سنة، أي بمعدل 45 في السنة، فهل قضية المقاومة تستأهل كل هذا القتل للسوريين؟ قصارى القول، إن الفضيحة ليست في الإحصاءات وإنما في السياسات، وليست على الورق وإنما في ما يجري في الواقع.