لا تبدو الأوضاع في المنطقة مهيأة لسلام عربي إسرائيلي، ولا حتى لاتفاقيات تسوية، وما هو ممكن لا يخرج عن مجرد عقد تسويات موقتة، طويلة أو قصيرة الأمد، والمسألة هنا لا تتعلق بما تريده، أو تستطيعه إسرائيل فقط، وإنما هي تتعلق أيضاً بالأوضاع الدولية والعربية (وضمنها الفلسطينية أيضاً). طبعاً، تقع المسؤولية الأساسية هنا على عاتق إسرائيل، فهي التي تغتصب حقوق الفلسطينيين، وتحتل أراض عربية، وهي التي تصر على طابعها كدولة يهودية، وعلى انتمائها الى الغرب (وليس الى الشرق الأوسط)، وعلى رفضها التحول إلى دولة عادية، ما يتطلب تعيين حدودها الجغرافية والبشرية والسياسية. وإسرائيل بوضعها هذا ترفض الاعتراف بكونها دولة محتلة (على الأقل في حدود 1967)، وتعتبر أية تقديمات منها عبارة عن «تنازلات» أليمة، لذا فهي تصر على استمرار الأنشطة الاستيطانية، وتهويد القدس، وإبقاء الفلسطينيين في حدود سيطرتها. على المستوى الخارجي ليس ثمة عوامل مناسبة، لا دولية ولا عربية، تضطر إسرائيل للمضي في تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها في الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، فهي قوضت اتفاق أوسلو (حتى في مرحلته الانتقالية)، ورفضت تنفيذ حصتها من خطة «خريطة الطريق»، بل إنها مضت في فرض وقائع جديدة، تتمثل بالتوسع السرطاني للنقاط الاستيطانية، وبناء الجدار الفاصل، وحصار غزة وتحويلها إلى سجن كبير. وفي ظل وضع عربي ودولي غير ضاغط، فإن إسرائيل تتلاعب بعملية التسوية، على هواها، وها هو نتانياهو يطالب الفلسطينيين بالشروع بالتفاوض، من دون شروط مسبقة، وكأن عملية التفاوض لم تبدأ قط، وكأن الاتفاقات والتفاهمات، التي تم التوصل إليها خلال 18 سنة، لم تكن البتة! ومن تفحّص النقاشات الإسرائيلية، يمكن ملاحظة أن ما يقلق إسرائيل يتعلق فقط، بصورتها الدولية، وأيضاً، بما تسميه «الخطر الديموغرافي» الفلسطيني، وفي ما عدا ذلك فهي لا تلوي على شيء. وربما على العكس، فإن إسرائيل تجد نفسها في أوضاع مريحة، دولياً وعربياً، فحدودها مؤمنة من كل الجهات، وهي نجحت في بث رسالة الردع التي تتوخاها (إزاء «حزب الله» و «حماس»)، على رغم إخفاقاتها في حربي 2006 و2008 وهذا ما يفسر اعتبارها عام 2009 من أهدأ الأعوام التي شهدتها مع اندلاع الانتفاضة أو عمليات المقاومة المسلحة (منذ عام 2001)، حيث لقي في هذا العام بضعة إسرائيليين فقط مصرعهم نتيجة عمليات فدائية. وللتذكير فقط فقد لقي حوالى 250 إسرائيلياً مصرعهم خلال الأعوام الستة الماضية (2004 2009)، وهذا العدد هو نصف عدد الإسرائيليين الذين لقوا مصرعهم في عام واحد فقط هو 2002، ما يؤكد انحسار عمليات المقاومة (من الضفة ومن غزة أيضاً)! وعلى الصعيد الاقتصادي فقد وصل مستوى دخل الفرد الإسرائيلي إلى 25 ألف دولار في العام (على رغم الانتفاضة والعمليات المسلحة والحروب)، وإسرائيل من الدول المتقدمة تكنولوجياً، وثمة علاقات راسخة لها، في هذا المجال، مع الصين والهند وتركيا (عدا الدول الغربية)، وهي تنفق حوالى 5 في المئة من ناتجها الإجمالي على البحث العلمي، أي أكثر بعشرات الأضعاف من الإنفاق العربي. وثمة إحصائيات تفيد أن عدد براءات الاختراع التي سجلتها إسرائيل، خلال العشرين عاماً الماضية، يبلغ عشرين ضعف عدد براءات الاختراع التي سجلتها الدول العربية مجتمعة (على رغم فارق الإمكانات المادية والجغرافية والبشرية). وفي الواقع فإن إسرائيل، ووضعها هكذا، تفضل التصرف وفق مبدأ «السور والقلعة»، لتحصين نفسها والحفاظ على وضعها كدولة يهودية في منطقة عربية، على عكس الانطباع الذي يروَّج له، ومفاده أن إسرائيل تحبّذ التطبيع مع محيطها. وهذا بنيامين نتانياهو رئيس حكومة إسرائيل يؤكد بأنه «في نهاية المطاف لن يكون هناك من مفر سوى إغلاق دولة إسرائيل من كل جوانبها». («يديعوت أحرونوت» 11/1/2010). وتفسّر إسرائيل ذلك بأن الحفاظ على وضعها كدولة قوية ويهودية من دون تسوية، أضمن لها من الارتهان لتداعيات تسوية غير مضمونة، في ظل الرمال العربية المتحركة، لا سيما أن هذه التسوية لا تبدو مقبولة في الثقافة العربية السائدة. بمعنى أن تسوية بالإكراه هي لا تسوية في الواقع، وعلى المدى البعيد (من الناحية الإسرائيلية). وتعلل إسرائيل ذلك بأن الفلسطينيين (وضمنهم «حماس») إنما يذهبون نحو القبول بدولة فلسطينية في الضفة والقطاع، ليس تسليماً بحق إسرائيل في الوجود، وإنما كنوع من التحايل على موازين القوى، وعلى المعطيات الدولية الراهنة، وأنهم يراهنون على عاملي الزمن والتزايد الديموغرافي، لإزالة إسرائيل، وهذه هي العقلية التي يتحرك على أساسها نتانياهو ويعالون وليبرمان، الذين يتحكمون بالائتلاف الحكومي المتطرف في اسرائيل. مقابل ذلك، ليس ثمة شيء، كما قدمنا، يضغط على إسرائيل، فهي على رغم انكشاف صورتها كدولة استعمارية وعنصرية وعدوانية ودينية، أمام الرأي العام الدولي، فإنها مع ذلك تتمتع بعلاقات وطيدة مع معظم دول العالم. وبالنسبة الى الفلسطينيين فإن أوضاعهم غير ملائمة البتة لفرض أي شيء على إسرائيل، فهم ملوا التفاوض بالطريقة السابقة، وتوقفوا عن المقاومة (في الضفة وغزة)، بعد أن أدركوا تركتها الباهظة، فوق كل ذلك فهم منقسمون على أنفسهم، ويبدو الصراع بينهم، على السلطة والشرعية والمكانة، أهم من صراعهم مع إسرائيل، ان من يصنع الحرب هو من يصنع السلام، ومن لا يستطيع صنع الحرب، ولا يمتلك القدرة على الردع (على الأقل)، لا يستطيع أن يفرض السلام، ولا حتى التسوية. * كاتب فلسطيني