لم تخل العقود الأخيرة من مناقشة الباحثين في المقارنة التاريخية لأهمية إجراء منهج البحث التاريخي المقارن، فهو وإن ظل نادر الحدوث، إلا أنه ظل ممكناً في العلوم الاجتماعية، وهو يدرس الأحداث التاريخية لإيجاد التفسيرات العلمية أو الكشف عن الفوارق، وقد تكون المقارنة سبيلا مباشراً لإظهار الفرق بين مجموعة أحداث تاريخية، وهي تنطوي على قدر من الفهم والقدرات الذهنية في المقابلة بين الأزمنة والأحداث. في هذا السياق يأتي كتاب «اليهود في الأندلس وفلسطين مقارنة بين تاريخين» لأستاذ التاريخ والحضارة في الجامعة الأردنية محمد حتامله، الذي ينحو باتجاه مقارنة تاريخية لأحوال اليهود في مجالين تاريخيين وزمانين مختلفين، ويستعرض في بابين وثمانية فصول تاريخ اليهود في العصور القديمة منذ عهد يعقوب، ويؤرخ لأحوال اليهود في مصر وعصر السبي البابلي وعصر الرومان وانتقالهم إلى الأندلس وعيشهم في شبه الجزيرة الأيبيرية (الأندلس) وفي عصر الوندال وعصر القوط الغربيين. ويرى الباحث أن عصر القوط الغربيين الذي بدأ سنة 410 م هو العصر الذي لقي اليهود فيه معاملة حسنة تميزت بالتسامح وكانوا أحراراً في تطبيق شعائرهم وممارستها، واستمرت هذه المعاملة حسنة حتى تحول القوط إلى المذهب الكاثوليكي فوقع على اليهود الاضطهاد والظلم الشديد وهو ما جعلهم يعملون على تقويض دولة القوط وإنهائها، وهذا ما جهزهم للترحيب بأي حكم جديد، وهو ما حصل بترحيبهم بالقوى الجديدة التي دخلت الأندلس مطلع القرن الثامن للميلاد، وهي الدولة الإسلامية. فعندما بدأت أيدي المسلمين بفتح أبواب الأندلس، تنفس اليهود الصعداء، وكان ذلك من أجل الخلاص من المسيحيين القوط الذين حكموا عليهم بحياة صعبة وظروف قاسية. وكانت سنة الفتح الإسلامي للأندلس العام 92 ه / 711 م البداية الحقيقية لتحرر يهود الأندلس من العبودية المسيحية، وبداية تحررهم في المجالات الدينية والتجارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها (ص 57). وتعرض الدراسة أماكن انتشار اليهود في الأندلس، وقد تتبع الباحث أخبارهم في المصادر التي ذكرت المدن والبلدات التي وجد فيها اليهود، ومنها: غرناطة وأورطة وطركونة والبيرة وقرطبة وإشبيلية ومالقة... وغيرها. وقد عاش اليهود جنباً إلى جنب مع المسلمين، وكانوا طوائف عدة بحسب أصولهم. وفي زمن الفتوحات الإسلامية، عاش اليهود عصرهم الذهبي الأكثر أهمية في عهد ملوك الطوائف الذي امتد بين عامي 422 و488 ه/1030 و1095م. وقد اهتم المسلمون باليهود وعاملوهم بالحسنى، وكان لذلك آثاره الطويلة المدى التي جعلتهم يتحسسون إمكان تحسن أوضاعهم منذ بداية الفتح الإسلامي. (ص99) ويحدد الباحث بدايات التعامل الإسلامي مع اليهود أثناء عمليات الفتح، عندما حدثت المواجهة بين جيش موسى بن نصير وجيش مملكة القوط، إذ إن تواضع أعداد الجيش الإسلامي جعل طارق بن زياد يستعين في بعض محطات الفتح باليهود، وذلك ما حدث بعد انتصاره على القوط في معركة «وادي لكه»، إذ تابع طارق مسيرته الجهادية إلى مدينة «استجهِ» ففتحها بعد انتصاره على القوط الذين تحصنوا فيها، وبعد الفتح قسم طارق بن زياد جيشه إلى أربع فرق، توجهت إحداها إلى مدينة قرطبة بقيادة مغيث الرومي، وبعد فتحها جمع يهودها وضمهم إلى مجموعة من جند المسلمين وأوكل إليهم جميعاً حماية المدينة. إن المقارنة كعلم تمكن في تحديد الشبه والاختلاف بين الأشياء والمواضيع، وهي مقدمة رئيسة للتعميم. والمنهج المقارن عموماً يعتمد على بحث الظواهر الثقافية والاجتماعية والمعرفية وتفسيرها، انطلاقاً من إبراز الأصول المشتركة أو القرابة التكوينية بين الظواهر. وفي سبيل إنجاح مقارنته التاريخ، ذهب الباحث إلى تقصي الأخبار التي يرويها نقلاً عن مصادر أندلسية متعددة، مثل المقري في كتابه «نفح الطيب» وابن عذارى المراكشي في كتابه «البيان المغرب». وتؤكد المصادر أن اليهود عاشوا بعد الفتح جنباً إلى جنب مع المسلمين وتمتعوا بنسيم حرية الإسلام وعدالته وقد تجمعوا في قلب المدن الأندلسية تحت الحكم الإسلامي وأقاموا لهم فيها أحياء خاصة عرفت في كل مدينة باسم «حارة اليهود أو حي اليهود «. (ص 102) ومع أن الأمراء والخلفاء المسلمين لم يصدروا أي تشريعات خاصة باليهود، ما يعني مساواتهم مع المسلمين في المعاملات اليومية، فإن اليهود ظلوا يعرفون باسم جماعاتهم من حيث الانتماء، وقد أطلق على اليهود في كل مدينة مصطلح الجماعة «Aljama» وهو اسم عربي، وكان يرأس كل جماعة نفر من المبرزين منها، يسمى أحدهم «البرور» ويتشكل للجماعة مجلس منهم يسمى «البرورين» أو بحسب اللفظ العبري (البروريم)، وكان البرورين والمقدمون ينتخبون انتخاباً. وذكر الونشريسي في كتابه «المعيار المعرب والجامع المغرب» عدداً من المواقف التي تظهر العدالة الإسلامية، وأورد في كتابه مسألة تتعلق بيهودي ويهودية اختلفا على التقاضي عند المسلمين أو عند اليهود، وأورد آراء القضاة المسلمين فيها، فقال: «وسُئل عن يهودي ذكر أن امرأة منهم طالبته عند قضائهم بأشياء ادعتها على أبيه، وأنه على الفعل عليه في ما طالبته به، وأن بيده سجلاً لقاضي الجماعة ووثائق منعقدة بالخط العربي وشهود المسلمين، واثبت أن القضاة اليهود وفقهاءهم على عداوة أبيه، وأتت المرأة وزعمت أن حقها ثبت عند قضائهم، وشهودها من اليهود، ومتى خرج نظرها عنهم بطل حقها. فأجاب أصبغ بن سعيد: إذ قد أتاك اليهودي راغباً في النظر له وجب له النظر، لا سيما ما استظهر به عندك من تقديم نظر القاضي في ذلك وعداوة الجميع لأبيه ..»، وأجاب ابن عبد ربه: «الذي جرى به العمل ببلادنا إذا تظالم اليهود في ما بينهم في الأموال والحقوق، ودعا أحد الخصمين منهم إلى حكم الإسلام ودعا الثاني إلى قضائهم، أن يرفعوا إلى قضائهم. كيف الطالبة تقول إن شهودها من أهل ملتهم ولا تمكنهم الشهادة إلا عند قضائهم؟ وإنما يخير حكم المسلمين في الحكم بينهم أو يصرفهم إلى قضائهم إذا جاؤوا راضين بحكم المسلمين».. « وأجاب ابن حارث: «إذا دعا أحد الخصمين من أهل الذمة إلى حكم المسلمين وبعضهم إلى حكامهم، فما كان من باب الظلم والتعدي مما ليس لهم فيه شريعة ولا حكم فالواجب أن يحكم بينهم بحكم الإسلام ...». وتمضي الدراسة في سرد مجموعة من الشواهد التاريخية والمواقف والروايات الدالة على حسن العلاقة بين المسلمين واليهود في الأندلس. وامتدت هذه العلاقة بين علماء الأندلس المسلمين واليهود وكانوا يتبادلون المعارف والمعلومات، وذلك ما حدث عندما طلب الشاعر والفقيه لسان الدين الخطيب من اليهودي يوسف بن وقار الإسرائيلي الطليطلي أخبار ملوك قشتالة، فزوده بها. ومن ذلك التواصل الثقافي العلاقة بين الشاعر الملقب بذي الوزارتين أبي بكر بن عمار المسلم والشاعر ابي الفضل حسداي بن يوسف بن حسداي اليهودي. الدراسة تظهر بمقارنة تاريخية حال اليهود في زمنين مختلفين، وتبرز الوجه الحضاري وطريقة تعامل المسلمين معهم، وعلى النقيض تظهر صورة قاتمة لليهود في فلسطين وكيف اغتصبوا أرض المسلمين وكيف يتعاملون اليوم مع المسلمين في ما هو خارج حدود الإنسانية والتفاعل الحضاري الذي عرفته الإنسانية. * كاتب وباحث أردني