صدر كتاب «المزاح في الإسلام»، لمؤلفه - ولا بأس بنقل اسمه حرفياً كما ورد على الغلاف الخارجي - الأستاذ الدكتور حسن عبد الغني أبو غدة، أستاذ الفقه المقارن والسياسة الشرعية في قسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية في جامعة الملك سعود بالرياض. عندما نقرأ عنوان الكتاب، الصادر في سلسلة دعوة الحق، رابطة العالم الإسلامي، السنة الثالثة والعشرون، العدد 216، نظن أن المسلمين سلخوا أعمارهم طوال القرون السالفة وهم لا يمزحون ولا يضحكون، لعدم تأكدهم من الحكم الشرعي للمزاح المولِّد للضحك، ولعدم تأصيل ذلك تأصيلاً شرعياً! إلى أن جاء كتابنا هذا فقَدّم هذه الخدمة الجليلة. وبعقلية عموم الفقهاء - اليوم - الخارجة عن حدود الزمان والمكان يحدثنا فقيهنا عن (حاجة الناس إلى معرفة حكم الإسلام في المزاح الذي يتكرر وقوعه بينهم، وقد يثير الاختلاف والنزاع والعداوة والبغضاء، أو يترتب عليه الكفر والردة عن الإسلام) (انظر:ص 7). وهذه هي طامتنا الكبرى إذ يَفترض فقهاؤنا حاجات للناس بل يفرضونها عليهم، ويقنعونهم من ثَمَّ بالحاجة إليهم في تلبيتها وإيجاد الحلول لها!، يقول المؤلف: (هذا الموضوع لم يدرس - وفق علمي- دراسة عامة شاملة علمية موثقة، ولم يفرد بالكتابة المخصصة في مؤلف مستقل) (انظر:ص13)، يقول هذا الكلام وفي ظنه أنه ينطبق عليه المثل القائل: «كم ترك الأول للآخر»، لكننا عندما سنكمل عرضنا لهذا النتاج سندرك أنه ينطبق عليه مثل آخر: «لو كان في البوم خير ما سلم من الصائد». وفي محاكاة هزيلة للعقول الفقهية العظيمة التي شهدها تاريخنا يناقش المؤلف تعريف المزاح اصطلاحاً، ثم يصححه فيقول: (عرّفه بعض أهل العلم بأنه: المباسطة إلى الغير على وجه التلطف والاستعطاف، دون أية أذية) (انظر:ص14)، ثم يعلّق على هذا التعريف قائلاً: (قلت: هذا التعريف لا ينطبق على المزاح المطلق، بل ينطبق على بعض أنواعه، وهو المزاح المشروع، لأن للمزاح المطلق أنواعاً أخرى يأتي بيانها، وبناء على هذا يمكن أن يعرّف المزاح المطلق في الفقه بأنه: قول أو فعل يريد به صاحبه مداعبة غيره مشروعاً كان أو ممنوعاً) (انظر:ص14)، ودعونا هنا نغتنم الفرصة لنبدي استياءنا من الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويدّعون أن باب الاجتهاد (مغلق)، فها نحن ندمغهم ونريهم هذه المناقشة الفقهية التي تناطح وتباطح أعتى التنظيرات الفقهية يوم كان باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه، بل يوم كان الاجتهاد من دون باب أصلاً. على أننا نودّ أن نسجل استدراكاً على تعريف المؤلف الفاضل حين حصر (المزاح) بأنه (قول أو فعل) إلخ، فقد أخبرنا الثقة أنه رأى بأم عينيه نوعاً من أنواع (المزاح) لم ينتج من (قول أو فعل)، بل نتج من (امتناع عن القول والفعل)، وقد حقق يومها نوبة ضحك عارمة لم تشهد البلاد لها مثيلاً. ويستمر فقيهنا في التأطير والتنظير فيضع ستة ضوابط للمزاح المشروع!، ولا عجب فهو يريد مزاحاً مؤصلاً تأصيلاً فقهياً! وعندها لا بد لهذا المزاح من أن ينوء بنياشين الضوابط والقيود! أما هذه الضوابط فهي: 1 - تحرّي الحق والصدق في المزاح والبعد عن الكذب. 2 - أن يكون المزاح يسيراً من غير إفراط فيه ومداومة عليه. 3 - تجنب المزاح المحرّك للضغائن والأحقاد. 4 - الابتعاد عن المزاح المروّع المخيف. 5 - تجنب المزاح مع غير المحارم إن كان يؤدي إلى الفاحشة، (حبذا لو أضاف الكاتب أيضاً: تجنب المزاح مع الصبية والأولاد والشباب بل وحتى الرجال إن كان يؤدي إلى الغلمة). 6 - ممارسة المزاح بجميل القول (انظر: ص 37 - 40). ومرحى لهذه الضوابط التي توضع للتفريق بين المزاح المباح وغير المباح، وإن كان لنا من ملاحظة على هذه الضوابط فهي قلة عددها، إذ ستة ضوابط لا تكفي لكي يضحك الإنسان وتبدو نواجذه وأضراسه! ولكن دعونا نسأل فقيهنا: هل سأل نفسه قبل الخوض في كل هذا التحذلق عن معنى كلمة (مزاح)؟ ولم سمي المزاح مزاحاً؟ فلو علم أن (المزاح) لم يُدعَ بذلك إلا لأنه أزيح عن الحق والصدق فصار (مزاحاً) عنهما، لأدرك عبث كل هذه الضوابط التي لا عمل لها سوى إزاحة (المزاح) عمّا خُلق له، وبُرئ من أجله! ولعلم أنه يكفيه وضع شرط واحد (للمزاح) لا ثاني له وهو: ألّا يكون (سمجاً ثقيلاً)! هل نتجنى على فقيهنا العتيد؟ وهل نغمطه حقه؟ والجواب هو في الفصل الذي عقده ل (المزّاح والمازحين في عصر النبوة والصحابة)!، فقد أتى بأمثلة تخرق كل هذه الشروط والضوابط، فكل الأمثلة التي أوردها مؤلفنا الكريم تجرح الصحابة وتدينهم وتجعلهم مقترفين للمكروه بل الحرام بمزاحهم غير المضبوط بالضوابط والشروط الشرعية التي حددها وعددها، ليغدو (العرس في دوما، والطبل في حرستا). ف (عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن أبا بكر - رضي الله عنه - خرج تاجراً إلى بصرى الشام، ومعه نعيمان (هو ابن عمرو الأنصاري، شهد العقبة وبدراً والمشاهد بعدها)، وسويبط بن حرملة (وهو بدري أيضاً)، وكان سويبط على الزاد، فقال له نعيمان: أطعمني. قال: لا، حتى يجيء أبو بكر، وكان نعيمان رجلاً مضحاكاً مزّاحاً، فقال: لأغيظنك. فجاء إلى ناس جلبوا ظهراً، فقال: ابتاعوا مني غلاماً عربياً فارهاً (نشيطاً قوياً)، وهو ذو لسان، ولعله يقول: أنا حرٌ. فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوه ولا تفسدوا عليّ غلامي. فقالوا: بلى، بل نبتاعه منك بعشر قلائص. فأقبل بها يسوقها، وقال: دونكم هذا هو، فجاء القوم فقالوا: قم قد اشتريناك. فقال سويبط: هو كاذب، أنا رجل حر. فقالوا: قد أخبرنا خبرك، فطرحوا الحبل في رقبته، وذهبوا به، فجاء أبو بكر فأُخبر، فذهب هو وأصحابه إليهم فردوا القلائص وأخذوه. فلما عادوا إلى النبي (ص) وأخبروه الخبر ضحك هو وأصحابه منها حولاً كاملاً) (انظر: ص 113). وكما ترون فإنّ مزاح هذا الصحابي رضي الله عنه مزاح حرام كما يُستنتج من العرض على الشروط السابقة، فهو أولاً مشهور بأنه مزاّح مضحاك، وهو ثانياً لم يبتعد عن الكذب، وهو ثالثاً لم يتجنب المزاح المحرّك للضغائن والأحقاد، وهو رابعاً لم يبتعد عن المزاح المروّع المخيف، وأي ترويع أفظع من فقدان المرء حريته وهو في طريق سفر!، وتصوروا اللحظات التي قضاها سويبط وهو عبد مربوط، وقد غدا وحيداً مع السادة الجدد، بعد أن تركه نعيمان وذهب بالقلوص، وهو خامساً لم يمارس المزاح بجميل القول ومستحس الفعل، على أنّ الإدانة هنا لا تقتصر على نعيمان فحسب، بل تتعداه إلى من ضحك من هذا المزاح سنة كاملة!. أما عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فينسلّ - كما يخبرنا المؤلف - من فراش الزوجية، ويدلف إلى جارية له فيواقعها، فتنتبه زوجه وتخرج فتراه على جاريته، فتعود وتأخذ الشفرة وترجع، فيسألها عبد الله بعد فراغه مما كان فيه، فتقول له: لو أدركتك لضربتك بها بين كتفيك. قال: وأين كنت؟ قالت: رأيتك على الجارية. قال: ما رأيتني. قالت: بلى. قال: فإن رسول الله نهانا أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب. قالت فاقرأ، فيرتجل عبد الله ثلاثة أبيات من الشعر على أنها آيات من القرآن، وكانت الزوجة لا تحفظ القرآن، ولا تقرأه فقالت: آمنت بالله وكذّبت بصري، ثم غدا عبد الله على رسول الله فأخبره، فضحك حتى بدت نواجذه) (انظر: ص 57). وههنا تجريح ما بعده تجريح لعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، إذ يُتهم بأنه سخر من زوجه، واستغل جهلها بالقرآن، وافتأت على القرآن الكريم، مدعياً أن شعره هو القرآن الموحى به من عند الله، وهل هذا إلا مزاح محرّم مقيت يقترب من الكفر والردة وفق شروط فقيهنا وضوابطه. نعم إنها شهوة (التأصيل) و(الضبط) و(التقعيد) حين تستبد بكيان فقهائنا، فتطير بهم خارج حدود الرشد، وتجعلهم مجرد متسلطين متحذلقين واهمين، يلتفتون ذات اليمين وذات الشمال في حميّا البحث عما تجاوز عنه السابقون، ليقوموا هم باستدراكه عليهم! وليفرحوا بأنهم أول من لملم هذا البحث، أو قعّد ذاك الموضوع! ويا ليت أنهم يستدركون ما ينفع، أو يقدمون ما يُقنع، في إطار الواقعية والصلاحية، وحاجات الناس الحقيقية.