تجهد إيران من أجل التوفيق بين حدين في سياستها حيال الأزمة السورية. الحد الأقصى هو القيام بكل ما تستطيعه من أجل الحفاظ على نظام الرئيس بشار الأسد، والحؤول دون سقوطه وتأخير هذا السقوط قدر المستطاع، بالدعم المباشر المالي والاقتصادي وعبر الخبرات العسكرية والأمنية والإعلامية، وعن طريق اذرعها وتحالفاتها وأوراقها الإقليمية. وليس مبالغة القول إنها ترعى غرفة عمليات كاملة لتحقيق هذا الهدف، منذ بدايات الأزمة السورية، تتكيف مع تطوراتها، ومع التقدم الذي يحرزه الثوار، بما يمكنها من التعامل مع تراجع سيطرة النظام. أما الحد الأدنى فهو السعي الى الحد من خسائر سقوط هذا النظام على موقعها الإقليمي، والذي سيؤدي الى حسم سورية من الأوراق الكثيرة التي تمتلكها، مدركة سلفاً أن هذا السقوط سيؤثر عاجلاً أو آجلاً في ما تبقى من أوراق تتمسك بها بأي ثمن أيضاً. ليس سهلاً على طهران التوفيق بين هذين الحدين. ومن الطبيعي، وهي تدير سياستها في كل منهما، أن تعتبر أنها تتعرض لحرب كونية هي الأخرى. وهذا ما يفسر الحركة الأخيرة التي قام بها كل من أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الدكتور سعيد جليلي في اتجاه كل من بيروتودمشق وبغداد وزيارة وزير الخارجية علي أكبر صالحي أنقرة، ثم عقدها الاجتماع التشاوري في العاصمة الإيرانية أمس. لم يخف جليلي بعد لقائه الأسد تشدد بلاده في الحفاظ على النظام السوري حين قال إنها «لن تسمح بأي شكل بكسر محور المقاومة الذي تعتبر سورية ضلعاً أساسياً فيه». لكن الخطأ في الحسابات، أثناء التحرك بين هذين الحدين قد يكون مكلفاً إذا جرّ القلق والارتباك اللذين يعيشهما القادة الإيرانيون الى خطوات غير محسوبة. وعلى رغم تبنيها الكامل لرواية النظام بأنه يواجه مؤامرة أميركية – إسرائيلية تساندها دول عربية، فإن القيادة الإيرانية تدرك أن سياسة إنكار الثورة الشعبية التي تتعاظم شأناً ضد نظام الأسد، ومواجهتها بالحديد والنار لن تنفعا في تغيير الواقع الفعلي. وعلى رغم المكابرة التي يثبت كل يوم فشلها بأن النظام قادر على السيطرة على الوضع، فإن التقدم الذي أحرزه المعارضون على الأرض، وتمكنهم من قتل 4 من كبار القادة الأمنيين، وتوالي الانشقاقات على رغم القبضة الحديد، والتي تزيد انكشاف الحلقة الضيقة الحاكمة، لا يكفي تكرار معزوفة المؤامرة لتبريرها. فالحصار على هذه الحلقة الضيقة بانشقاق رئيس الوزراء رياض حجاب، يزيل الحلقة الوسطى التي تشكل خط حماية لها، تدريجاً. وهو أمر يرجح أن يستمر ويتفاقم، فتزيد الحفنة الحاكمة استخدام العنف والقتل والتدمير... تنفي طهران تدخلها العسكري والأمني المباشر فتضطر الى القول إن الزوار الإيرانيين ال 48 الذين احتجزهم الجيش السوري الحر هم من المتقاعدين في الحرس الثوري الإيراني، لأنها تدرك أن لا تدخل أميركياً أو عربياً أو تركياً مباشراً في الحرب الدائرة في سورية. فهي حتى لو صحت الأنباء عن وجود مقاتلين لها في دمشق الى جانب النظام، تعلم أن هذه التهمة ستكون تبريراً لتدخل مباشر من واشنطنوأنقرة وعواصم عربية أخرى. وهي تعلم أيضاً أن واشنطن باتت تستخدم الأسلوب الإيراني نفسه أمام تراجع الاعتداد الأميركي بالنفس، وروح المغامرات العسكرية التي كلفت بلاد العم سام خسائر لا تحصى في العراق وأفغانستان، فتؤثر دعم الثوار السوريين من بعد وتخوض الحرب بواسطة دول أخرى وأدوات مساعدة لا مباشرة. وهو ما سمّاه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حرباً بالوكالة تدور في سورية. واستطراداً تعرف طهران أن استخدامها والنظام السوري أوراقاً مثل حزب العمال الكردستاني في وجه تركيا، لا يعني أن الأخيرة لا تملك أوراقاً بالمقابل عبر علاقتها مع رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني مثلاً في التعاطي مع الحدود العراقية – السورية ومع إمكان نشوء جيب كردي ضد أنقرة على الحدود السورية – التركية. ويمكن الحديث عن أوراق متبادلة في الدول الأخرى المجاورة ومنها لبنان. هل هي الخشية من العزلة، بعد استبعاد طهران من اجتماع جنيف في 30 حزيران (يونيو) الماضي الذي اقر خطة انتقال سياسي في سورية انطلاقاً من نقاط المبعوث كوفي أنان الست آنذاك، هي التي دفعتها الى التحرك الديبلوماسي الأخير، أم هي خطة التحرك الهادفة الى الحد من خسائرها والرغبة في الاحتفاظ بورقتي نفوذها في العراق ولبنان، في حال سقوط نظام الأسد؟ قد يكون السببان معاً وراء هذا الإصرار من قبل جليلي في لبنان على إيصال الرسالة الى المسؤولين اللبنانيين بالإقلاع عن إثارة مسألة سلاح «حزب الله» في الحوار الوطني. والأرجح أن دعوة طهران الى الاجتماع التشاوري أمس، ترمي الى استباق تحديد سقف عال في التعاطي مع الأزمة السورية في قمة التضامن الإسلامي في مكةالمكرمة الثلثاء المقبل، لعل طهران تستلحق القمة بسقف تشارك هي في رسمه.