أجمل امرأة تُدعى الحرية. حاء الحرية: حاء الحب، الحنان، الحلم... والحياة. مرةً أخرى: الراء حرفٌ زائد بين الحاء والباء. المعضلة أننا لا ننال الحرية فقط بالحب، لا بد من الحرب أحياناً وإن على مضض، لا مناص (للأسف) من دماء وويلات وكوارث. الحرية ليست فقط شعاراً، ليست فقط قصيدة وأغنية وهتافاً في تظاهرة ويافطة في شارع أو ساحة عامة. هي كلُّ ما سبق وهو جميلٌ وهام. لكنها أولاً حريةُ التفاصيل الصغيرة، التفاصيل العادية التي تبدو أحياناً كأنها «تحصيل حاصل». أن تنهضَ صباحاً وتقرر أنتَ لا سواك ماذا تحتسي: القهوة أو الشاي أو سواهما. ماذا تسمع: موسيقى الجاز أو البلوز، صوت فيروز أو أم كلثوم. ماذا تتصفح: جريدة ورقية أو صحيفة إلكترونية، رواية أو ديوان شعر... أن تقرر أنتَ لا سواك ماذا ترتدي، وأي لون تختار: أزرق السماء أو أبيض الزبد، بُنيّ التراب أو أخضر الحقول، بدلة كلاسيكية أو جينزاً نهارياً. (في المعتقلات يوحّدون الزيّ، يمحون الأسماء، يصير المعتّقلون مجرد أعداد لكل منهم رقمٌ يُنادى به بهدف تجريدهم من إنسانيتهم وكل ما يمتّ إليها)... أن تقرر أنت لا سواك أي طريق تسلك، كورنيش البحر برفقة فقش الموج ورائحة اليود، أو شارعاً داخلياً بصحبة الأبواق والزعيق وصخب الحياة الملعلع على شفاه البشر. أن تمشي الهوينى أو تمضي مسرعاً مسبوقاً باللهفة ونبض القلب. أن تصعد باصاً عمومياً أو سيارة أجرة... مرةً أخرى: الحرية هي حرية الرأي الآخر. والمقولة للمناضلة الأممية ألكسندرا كولونتاي قبل أن تغدو مجرد شعار تلفزيوني أجوف. الحرية هي حرية الرأي الآخر. والآخر فردٌ أولاً قبل أن يكون جماعة. والرأي ليس فقط فكراً وانتماء وهوية، إنه أولاً سلوك يومي وأسلوب عيش ونمط حياة. لا يمكن لمجتمع أن يتحرر حقاً ما لم يتحرر أفراده، ما لم نحترم حق الفرد في الأسرة والعمارة (الجار) والحي والمدرسة والجامعة والفريق، وكذلك في الدين والطائفة والمذهب. الجماعة يمكن أن تتحول إلى «طاغية» أيضاً. الطغاة ليسوا فقط أفراداً. ما لم يتحرر الفرد لن تتحرر الجماعة، يغدو التغيير مجرد استبدال سلطة بأخرى وحاكم بسواه. ليس لك أياً كنتَ أن تفرض رأيك عليّ، ولا ذوقك أو طريقة عيشك. أريدُ العيش على ذوقي وكما فطرني الباري فلماذا تُنّصب نفسك ناطقاً باسمه وتدّعي تمثيله على الأرض. «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» (عُمر بن الخطاب). أريدُ العيش كما يحلو لي لا كما يحلو لك. احترمْ خياراتي لأحترمَ خياراتكَ. كلُّ ما عدا ذلك يغدو مجرد لغو وإنشاء لا يُسمن ولا يُغني من حرية. القهر الفردي نواة القهر الجماعي. تنفجر الجماعة بوجه طغاتها لأسباب عامة جماعية، لكن داخل الأسباب العامة ثمة ما هو خاص لكل فرد من أفرادها. تعددت الأسباب والثورة واحدة، كذلك الغاية: الحرية. «كأزرار الورد في شَفة الماء، كشامات الندى على خدّ عشبة أو صبيحة ضاحكة بعد ليلة ليلاء، أمداؤك توسّعها آهاتُ العشاق، سمرتك تلّوحها شمسُ الفلاحين وتعبُ الساحات. بيدين مائيتين تغسلين وجعَ التراب، نارك خضراء خضراء، ينابيعك لا يحجبها خوفٌ ولا جوف، قمرك يزيح ستائر السحاب. كأنك مهرةُ الريح، لا يروّضها سوطُ مطر، لا يسرجها غير الشهداء، وجهك لا يعرفُ تجاعيدَ ضيم، لا تُغضّنه نوائبُ الأيام، ضفائرك على كتفي الدهر ريشَ غمام، شقراء كأحلام الصبا، لا تشيب، لا تغيب مهما اكفهر وجه الزمان، مهرك دماءٌ بكرٌ وقرابين فتية. حاء الحياة، راء الروح، ياء اليمام، وتاء تضمُ نفسها وأنفاسها بحُبّ وحنان».