حتى وإن كان يمكن، في اختصار، التحدّث عن كريس ماركر بوصفه واحداً من كبار السينمائيين في العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فإن هذا التوصيف لن يعدو كونه مجتزأ، ذلك ان ماركر الراحل قبل ايام عن واحد وتسعين عاماً، كان اكثر من هذا بكثير. كان مبدعاً شاملاً ووفير الإبداع في مجالات شديدة التنوع بحيث اننا لو شئنا، فقط، تعداد انجازاته طوال ما يزيد عن سبعة عقود في المجالات كافة التي ابدع فيها، سنحتاج الى ما لا يقلّ عن صفحتين من صحيفتنا هذه. ومع هذا سيكون منطقياً ان نتوقف عند الأبرز بين تلك النشاطات... ولكن، طبعاً، ليس على غرار بعض الإعلام الأميركي الذي إذ تحدث عن رحيل ماركر خلال الأيام السابقة، ذكر بعض تلك الأعمال، لكنه اعتبر مأثرته الأساسية تحقيقه فيلمه الأشهر la jetee الذي ربما كمنت قيمته بالنسبة الى تلك الصحافة في كونه الأساس الذي بنى عليه تييري جيليان فيلمه الشهير «12 قرداً». هذا الكلام صحيح طبعاً، ولكن الأصح منه هو ان عالم، او عوالم - كما سنرى بعد قليل – كريس ماركر، كانت اوسع كثيراً من ان «تختصر» بتلك الخبرية! معانقة شاملة للإبداع كان كريس ماركر سينمائياً وكاتباً ورجل تلفزة من الصنف المميز والذي اضاف الى الشاشة الصغيرة كثيراً وأكثر مما يمكنها الزعم انها اضافت اليه. وكان كاتباً ومصوراً فوتوغرافياً ورساماً وفنان «تجهيز» عرف كيف يستفيد من امكانات هذا الفن الجديد والما-بعد-حداثي كي يقدّم تطبيقات عملية في مضمار المزج بين الفنون والآداب. وكان ماركر مناضلاً سياسياً وسوريالياً وواقعياً، ومناصراً للقضايا العادلة الكبرى في العالم. وكان ماركسياً وناقداً للستالينية في الوقت نفسه... تُرى، أوَليس من الأسهل علينا هنا والأوفر للوقت، ان نضع لائحة بما لم يكنه هذا الذي عاش القرن العشرين وآماله وإحباطاته وثوراته الفكرية وخياناته مسجلاً معظمها بكاميراه ونصوصه؟ وألن يكون من المنطقيّ اكثر النظر اليه على ان فعل الصداقة قاد خطاه منذ البداية الى النهاية؟ فعل الصداقة الذي جعله يحقق اعمالاً شديدة الأهمية – انتهت بأن تعرض في التلفزة غالباً – عن مبدعين فنانين كانوا أو صاروا اصدقاء له؟ فمن «عزلة مغني الأعماق» عن ايف مونتان، الى فيلمه «AK» عن المخرج الياباني الكبير آكيرا كوروساوا، الى الشريط عن سيمون سينيوريه («ذكريات الى سيمون») الى «قبر الكساندر» عن المخرج الروسي الكساندر مدفكين، وصولاً الى فيلمه الفريد عن آندريه تاركوفسكي بعنوان «يوم من حياة اندريه آرسينيفتش» عرف ماركر كيف يجعل السينمائي والفنان نفسه مادة غنية للسينما حتى وإن صنعت اصلاً للتلفزيون. وقد يكون في وسعنا هنا ان نقول ان كريس ماركر كان، الى جانب روبرتو روسليني، واحداً من كبار فناني السينما الذين ادركوا باكراً اهمية التلفزيون في حياة الفن السابع وبقائه. وهذا ما عبّر عنه في أعماله وفي تصريحاته أيضاً. رجل سينما اولاً وأخيراً ومن هنا حين الحديث عن ماركر لا ينبغي ابداً ان ننسى للحظة انه كان اولاً وأخيراً رجل سينما. ولكن سينما من نوع خاص جداً، وبالتالي من نوع شديد الشمولية. اما خصوصيته، فإنها كانت هي ما جعل سينماه تسمى بسينما «الفيلم/الدراسة»... في تزامن في هذا مع كبار من سينمائيي النوع ارتبط اسمه باسمهم ليعتبروا من ورثة روبرت فلاهرتي وجون غريرسون وربما ايضاً جان فيغو، الشرعيين، ونعني بهم جوريس ايفنز وفردريك وايزمان وحتى ريمون ديباردون بين آخرين، وكلهم مبدعون سينمائيون جمعهم معاً استخدام جمالي مميز للصورة المتحركة يخبئ وراءه – وليس دائماً وراءه – مواضيع انساسية متقدمة تقول الزمن الراهن بقوة تعبيرية جعلت للسينما التوثيقية في احيان كثيرة، مكانة تفوق مكانة السينما الروائية العظيمة في العالم... بل تمزج في شكل خلاق بين الصنفين في بوتقة اقل ما يقال عنها انها عصية على اي تصنيف. وكريس ماركر كان على اية حال عصياً على اي تصنيف هو الذي ولد العام 1921 في نوايي سور سين غير بعيد من باريس، وبدأ حياته المهنية وهو في بداية عشرينياته، رحالة وكاتباً ومناضلاً سياسياً ومقاتلاً في صفوف المقاومة ضد النازية ثم مناصراً للحزب الشيوعي الفرنسي انما على طريقة مجلة «إسبري» اليسارية الشخصانية تحت رعاية الفيلسوف ايمانويل مونييه. وبعد الحرب وإذ شعر ماركر (وكان اسمه في ذلك الحين لا يزال كريستيان فرانسوا بوش فيلنوف) ان في وسعه الآن ان يبحث عن آفاق تعبير جديدة، التقى آلان رينيه الذي كان يحضّر بداياته السينمائية غير بعيد من اجواء النقد الفرنسي الجديد الذي كان يتحلق من حول شيخ النقاد السينمائيين في ذلك الحين، آندريه بازان. وعاون كريس ماركر، رينيه الذي بات صديقاً له في تحقيق فيلمه «التماثيل تموت ايضاً» بعدما عمل لفترة في احضان اليونسكو عبر افلام تعليمية. ومع ذلك التعاون الأول مع آلان رينيه سيولد على الفور السينمائي الذي سيكونه ماركر خلال اكثر من نصف قرن تال... ولكن بالتزامن مع ولادته كروائي اذ انه كان قد نشر رواية له عنوانها «القلب النقي» مع جملة أشعار كتبها. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف ماركر عن الإنتاج ولم يخبُ لديه فضول راح يقوده في دروب بدت دائماً من غير نهاية ومن غير حدود. فهو كان دائماً في الصف الأول من الأحداث، السياسية وغير السياسية، يصوّر، يؤفلم، يكتب، يرسم... وكذلك يشارك في الصخب السياسي. في اختصار، هنا يمكن القول انه كان دائماً نموذجاً مبدعاً راقياً وطليعياً لما كان الفيلسوف الإيطالي انطونيو غرامشي (مؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي، ومن اول المعترضين على الستالينية وجمودها العقائدي) يطلق عليه اسم «المثقف العضوي». ومن هنا نرى ماركر بين المثقفين الفرنسيين المعارضين للحرب الفرنسية في الجزائر. ثم نراه من المعترضين على «العدوان الثلاثي» على مصر – حتى وإن كان وقع ذات لحظة في إغراء اعتبار «التجربة الصهيونية في فلسطين تجربة نضالية!! -، في وقت كان فيه يحقق شرائط عن اوضاع ونضالات الطبقة العاملة. وهو، اذ حث ثورة الشباب في ايار 1968 الفرنسي والأوروبي في شكل عام، رأيناه «يمتشق» كاميراه ويصوّر – وغالباً هنا بالتعاون مع مجموعات عمل نضالي/فني على النمط اليساري الذي ساد آنذاك. غير انه كان خلال تلك السنوات قد كوّن لنفسه رصيداً كبيراً ولا سيما عبر سفرات آسيوية (كوريا الشمالية، فييتنام، الصين...) وأفريقية، كان يعود منها دائماً بأفلام تراكم مزيداً من الأعمال السينمائية التي تضيء هموم العالم. ومن هنا، حين راح في الستينات يتعاون مع مجموعات عمل نضالي/ فني مثل «سلون» ثم «ايسكرا»، كان من الواضح ان ثقله النوعي يعتبر رفداً اساسياً لتلك المجموعات... والحقيقة انه هو نفسه سيعود الى التعبير عن تلك المرحلة كلها في واحد من اهم وأجمل افلامه: «عمق الهواء أحمر» (1979) الذي يعتبر اشبه بمحصلة توليفية لعمليه السياسي والفني، ولكن ايضاً لمسيرة جيل كامل من اصحاب الفكر التقدمي واليساري الفرنسي. عمل لا يحدّ غير ان «عمق الهواء أحمر» ليس مأثرة ماركر السينمائية الكبرى الوحيدة بالطبع... بل يمكننا هنا ان نضع لائحة في عشرات الأسماء، لكننا سنكتفي ببضعة عناوين فقط، على سبيل المثال خالطين بين شرائط وأعمال تجهيزية، على الطريقة التي كان ماركر يفضلها: فمن «بدون شمس» الى «ميراث البومة» ومن «المستوى خمسة» الى «حين تشكّل القرن» مروراً ب «فيلم صامت» و «ليلى تهاجم» و «مختار في كوسوفو» و «20 ساعة في المعسكرات»... الى عشرات غيرها من العناوين تراكم على مدى تاريخ هذا المبدع متن سينمائي/كتابي/تصويري/تجهيزي يمكن اعتباره قريناً صلباً للزمن الذي أبدع فيه.