كانت شخصيات الصحابة الكرام في وعيي قديماً (أيام المرحلة المتوسطة والثانوية وحتى الجامعية) كما غيري من المؤمنين التقليديين شخصيات متعالية على الخطيئة وعلى المستوى البشري، وقد لا أكون مبالغاً إن قلت إنني في بطانتي اللاشعورية أضعهم فوق مصاف البشر العاديين (بمنزلة بين المنزلتين) ما بين البشر والملائكة في الطهر والتأله، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وإن كنت الآن أعتقد بخيرية الصحابة وتميزهم وتشرفهم بأعظم مأثرة وهي صحبة النبي عليه السلام ومشاركته في تأسيس ونشر الرسالة، إلا أنني أعتبر المبالغة في رفعهم في «الميتاتاريخ» والمثال مشكلة ثقافية وتاريخية ودينية، يتحمل تبعاتها الثقافة الشفهية التي كرست تبجيلهم. كما الكتب المسطرة التي تخصصت في تقديس الصحابة، ومنها كتاب «صور من حياة الصحابة» للكاتب عبدالرحمن رأفت الباشا، الذي تحول كمقرر ومادة دراسية رسمية في التعليم العام. هذا الكتاب وغيره من الكتب التي احترفت تبجيل وتقديس الصحابة وتقديمهم كشخصيات طهرانية أثر في وعينا وجعلنا لا نفترض وقوع الصحابة في الخطيئة، ما أفقدنا إمكان الحوار والحديث عن ذلك الجيل كحالة تاريخية بشرية مجردة من المزايدات التقديسية المتعدية وغير المنطقية. حتى وأنا أدرج في المرحلة الجامعية كنت لا أزال أتلقى تكريس تقديس الصحابة من خلال كتب العقيدة التي تؤكد أهمية عدم «التماس» ونقد ما شجر بين الصحابة أو الخوض في صراعاتهم الدموية التي تحولت لحروب أهلية. تلك تقديمة يحتمها الحديث عن مسلسل عمر، الذي نزل على الوعي التقليدي كنازلة من النوازل وليس كعرض وموضوعة فرعية جزئية، وتحول لكرة نار الكل يرميها على الآخر تحريما أو إباحة، كما هي العادة في كل طارئ ثقافي أو اجتماعي. ولأن ثقافتنا تعتمد غالباً ردة الفعل الشعبية في التبييء أو الرفض للجديد، فإن ردة الفعل على حكاية مسلسل عمر أتت في ناحية الرفض والتنديد المتشنج، ليتحول المسلسل كجرح نرجسي على وجدانات المؤمنين التقليديين. كان تعاطي الطيف أمام هذا المشروع الدرامي متبايناً متنائياً في الرؤية والتقعيد. فمن يبيح يرى أنه يعتمد الأصل وهو الحلّية الأصلية لكل عمل دنيوي ما لم يأت دليل يعارض أصل الحلية. وأن من يتحمل مسؤولية البحث عن دليل هو المحرم وليس المبيح الباقي على أصل الإباحة. كما يرى المبيح أنه مجتهد مأجور في إباحته لأنه يشارك في إعادة التعريف بعمالقة الصحابة لدى الجيل الجديد الذي تجافى عن القراءة والاطلاع في سير شخصيات الجيل الأول (الصحابة الكرام). في الجانب الآخر، المحرمون والذين يرون أن ممارستهم للتحريم هو التخوف من هضم شخصية عظيمة (عمر)، لاعتقادهم أن القائمين على المسلسل لن يوفوه حقه وجلالته الرمزية حيث هو رجل الإسلام الثاني بعد أبي بكر وثاني الخلفاء الذين يكن لهم الوعي السني كل الإكبار والتبجيل. منضافاً إلى ذلك أن شخصية عمر في لاوعي المحرمين تحمل هالة نبوية ترفعه عن غيره من الصحابة عدا الخلفاء الراشدين. إضافة إلى أن الفاروق قد تحولت لشخصية سجالية مذهبية تباينت المذاهب في التعاطي معها مابين غالٍ فيه ومبجل كحال كثير من أهل السنة، وما بين حاط من شخصيته ومسيء لجنابه رضي الله عنه. هذه التبريرات والمقدمات وغيرها تآزرت في الوعي التقليدي لتكون حكماً تحريمياً يعتمد الوعي والتداعيات الوجدانية أكثر من اعتماد التأصيل العلمي الشرعي العقلاني. الحصاد، اعتماد العاطفة والوجدان الديني في الحلال والحرام ليس منهجاً علمياً. والسكوت عن تمثيل شخصيات صحابة آخرين والانجفال في تحريم تجسيد عمر تمييز غير مفهوم. وخشية تدنيس سيرة عمر وهم يشي بذهنية مكارثية تتوهم في الآخرين سوء الطوية وفساد النية. واتهام العلماء المبيحين والتشنيع عليهم إمبريالية ثقافية دينية. والتعاطي بصبابة مع شخوص الصحابة ليس من الإصابة. وممارسة تشويش الوعي العام بالتحريمات المرتجلة خطيئة معرفية. * كاتب سعودي. [email protected] @abdlahneghemshy