تبارى المستشرقون، وعلى مدى عقود من الزمن، بترداد أن الإسلام دين عضوي لا يحتمل التقدم، وأن الطاعة هي في الأصل للإله أولاً ومن ثم لولي الأمر، حاكماً كان أم رجلَ دين أم ربَّ أسرة. إنه - أي الإسلام - نقيضٌ للحرية، هكذا قالوا، وبالتالي فإن المجتمعات العربية والإسلامية استثناء على الحرية، في عالم انتصار الحرية في هذا «الزمن العالمي»، زمن ما بعد سقوط جدار برلين. والآن تُسقط الثورات العربية أنظمة الاستبداد السياسي تحت شعار «الحرية والكرامة»، الحرية التي تحميها «دولة القانون»، والكرامة التي تحققها «دولة الحقوق». أليست هذه لحظةَ سقوط مقولة الاستثناء العربي والإسلامي على الحرية؟ أليست لحظةَ استعادة مشروع عصر النهضة العربية الأول ومشروع انتقال المجتمعات العربية من «مجتمعات مغلقة» إلى «مجتمعات مفتوحة» على التغيير الديموقراطي الذي لا رجعة عنه؟ وقد أقرّت تنظيمات «الإخوان المسلمين» في كل من مصر وتونس وسورية، مشروعَ بناء الدولة المدنية لا الدولة الدينية، إنْ في وثائقها أو في مؤتمراتها العالمية. ويؤكد «الإخوان المسلمون» أنهم سيأخذون بالمقاصد الكلية للشريعة بما هي حقوق الإنسان، وليس بأحكام الشريعة، وبالتالي فإن مصطلح «الإسلام السياسي» لا ينطبق عليهم، بل على تنظيمات سياسية تسعى لبناء جمهوريات إسلامية، كحزب النور في مصر وحزب الله في لبنان، فهل يسمى الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني الذي تنتمي إليه السيدة أنغيلا مركل بالمسيحية السياسية؟ مع العلم أن الأزهر الشريف كان قد صدرت عنه وثائق ثلاث تتناول: الدولة المدنية، حرية الرأي والتعبير، وحرية الإبداع والمعتقد، وهو بصدد إعداد الوثيقة الرابعة حول المرأة. وقد أكد الأزهر الشريف تحت هذه العناوين، أن لا دولة دينية في الإسلام، فأسقط مقولةً شائعة بأن الإسلام دينٌ ودولة. وفي هذا المجال، لا بدّ من ملاحظة ضمانات ثلاث تتوافر، أو ستتوافر حكماً للتغيير الديموقراطي الجاري عربياً، هي: - جيل الشباب، الذي أسقط أنظمة الاستبداد السياسي. هذا الجيل، الذي تفتَّح وعيه على هذا العالم ما بعد سقوط جدار برلين، هو جيل انتصار الديموقراطية وقيم الحرية في هذا «الزمن العالمي». - وثائق الأزهر الشريف وإقرار مشروع بناء الدولة المدنية في وثائق «الإخوان المسلمين» السياسية، كما أشرنا أعلاه. - التزام المعايير الدولية للدخول إلى السوق، وكذلك القوانين الدولية ( مثلاً: مخالفة إيران لهذه المعايير في الملف النووي أخرجتها من السوق). فما معنى التغيير الديموقراطي عربياً؟ إنه انتصار للعروبة الحضارية على عنصرية الفكر القومي، التي مورست استبداداً سياسياً من قبل التيارات السياسية الخاضعة لهذا الفكر، كما هو انتصار على التطرف في الفكر الديني، فلا أحادية ثقافية ولا تعدد ثقافياً، بل تنوّع ثقافي في إطار الوحدة، وحدة الانتماء للعروبة الحضارية التي تساهم مكونات المجتمعات العربية كافة في إنتاجها، العرقية منها والدينية. هذه العروبة الحضارية تشكّل أحد مكونات الثقافة العالمية، إذ تشترك في إنتاج هذه الثقافة مؤكِّدةً انتماءها إليها، تنوعاً في إطار الوحدة. وهو انتصار لقيم الحرية العالمية، وبالتالي الانتماء لعالمية الثقافة الإنسانية. وهو انتصار للدولة الوطنية وقرارها المستقل، فلا تقسيم ولا وحدات اندماجية قسرية. وهو انتصار للتعددية السياسية ولتداول السلطة، على قاعدة إجراء الانتخابات التشريعية الدورية. وهو انتصار للانفتاح على أشكال التكامل العربي كافة، على قاعدة احترام استقلالية القرار الوطني لكل دولة من دول العالم العربي. وتأتي في طليعة النتائج العربية للتغيير الديموقراطي «علمنة» الإسلام، لا «أسلمة» الثقافة. إنها المرة الأولى التي يواجه فيها الإسلام الثقافي أسئلة العالم الجديد، عالم القرن الواحد والعشرين، ذلك أن «علمنة» الإسلام الثقافي، بما هي بناء دولة مدنية لا دولة دينية، هي النتيجة الحتمية لهذه التطورات السياسية والفكرية، في إطار تأكيد انتمائه لعالمية الثقافة الإنسانية. هذا ما جاءت به وثائق الأزهر الشريف، وما أكدته وثائق «الإخوان المسلمين». وترجيح دولة واحدة على أرض فلسطين لا دولتين، ذلك أن انتصار الديموقراطية في البلدان العربية هو تأكيد للتنوع الثقافي والديني في إطار كل دولة من الدول العربية. وعليه، فإنه انتصار للدولة الواحدة في إطار تنوعها الثقافي، فلماذا لا تكون فلسطين، كل فلسطين، دولة واحدة تعيش فيها مكونات المجتمع الفلسطيني-اليهودي (الإسرائيلي) كافة؟ لم تعد إسرائيل «الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، بل أصبحت الدولة العنصرية الوحيدة في الشرق الأوسط بعد انتصار الديموقراطية في الدول العربية. فهل لها أن تستمر دولة عنصرية وحيدة؟ إنها مهمة مستحيلة. هناك شرق أوسط جديد بشرطه العربي، فالمشروع السياسي العربي الذي ستقودنا إليه حتماً الديموقراطيات العربية الطالعة، هو شرط أساس لحفظ التوازن الإقليمي ودفع مشاريع الهيمنة على هذه المنطقة من العالم، وأول هذه المشاريع المشروع الإسرائيلي، الذي يقوم على احتلال فلسطين وطرد الشعب الفلسطيني وعدم التزام قرارات الشرعية الدولية، وخصوصاً القرارين 242 و 338. وثانيها مشروع الهيمنة الإيراني الذي يقوم على سياسة التدخل في الشؤون الداخلية العربية تحت عنوان قدسية القضية الفلسطينية، مستخدماً خطاباً سياسياً إسلاموياً. أما المشروع التركي، فقائم على احترام القوانين الدولية في العلاقات التركية – العربية، ويستفيد من ميزان تجاري يتصاعد بشكل مستمر لمصلحته، وقد آن الأوان لنسج علاقات ناضجة ومثمرة معه. وهكذا، فإن التحولات الديموقراطية العربية هي إطلاق لمشروع سياسي عربي قائم على احترام حقوق الإنسان والحقوق الثقافية للجماعات المكونة للمجتمعات العربية، مما سيؤدي إلى بناء مجتمعات نامية جديدة، كما إلى بناء دولة ديموقراطية في فلسطين، كل فلسطين، وهذا هو الشرط الذي لا بديل عنه لبناء شرق أوسط جديد. * أكاديمي وناشط لبناني