صدر في القاهرة عام 1349ه / 1930م كتاب «الجوهر الاسنى في تراجم علماء وشعراء بوسنة» لمحمد بن محمد الخانجي «من علماء الأزهر الشريف» (كما ورد في الغلاف)، الذي حظي لاحقاً باهتمام كبير نظراً لأنه أول مرجع من نوعه في العربية عن إسهام علماء وشعراء البوسنة والهرسك في اللغات الشرقية (العربية والتركية والفارسية) في مختلف مجالات المعرفة: اللغة والأدب والتاريخ والفلسفة والفقه وأصوله والسياسة الخ. وقد رتّب الخانجي كتابه على شكل معجم أورد فيه علماء وشعراء البوسنة وفق التسلسل الأبجدي، معرفاً بكل واحد مع تقديم نماذج من نتاجهم الشعري في شكل خاص في العربية والتركية والفارسية. ولكن ما لم يعرف عن المؤلف أن الاسم الأصلي له محمد خانجيتش وأنه كان قد جاء القاهرة لتوه للدراسة في الأزهر (1926) وتخرج منه في 1930 ليعود إلى بلاده ويصبح من علماء البوسنة في القرن العشرين بل «رشيد رضا البوسنة». فقد بدأ عمله في مدرسة الغازي خسرو بك المعروفة وانشغل هناك بالتأليف في لغته الأم، ومن ذلك إعداد طبعة بوسنوية للكتاب الذي كان قد أصدره في القاهرة عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره وظنّ الناس أنه أكبر من ذلك بكثير لما ورد تحت اسمه في الغلاف «من علماء الأزهر الشريف». وعلى رغم أهميته نسي هذا الكتاب ولم يتذكره بعضهم إلا مع تفاقم الأوضاع في البوسنة نتيجة لانهيار يوغوسلافيا في 1991 فأصدر المرحوم عبد الفتاح الحلو طبعة محققة منه في القاهرة 1992، كما صدرت في بيروت طبعة أخرى من «تحقيق» سيد كسروي حسن عام 1993. وللأسف لا نجد في هاتين الطبعتين أي معلومة جديدة عن محمد الخانجي الذي بقي في القاهرة بهذا الاسم الذي اخترعه صاحبه ولم يكن هناك أي إشارة أو محاولة لمعرفة ما حلّ بصاحبه، أو أنه بدا كأن الأمر يتعلق بشخصين مختلفين: محمد الخانجي الذي ضاعت أخباره ومحمد خانجيتش الذي شغل البوسنة بمؤلفاته حتى وفاته المفاجئة في 1944. ومن هنا جاءت الطبعة الجديدة (الرابعة) التي صدرت في الكويت عن مؤسسة البابطين في 2010 لتعيد الجزء إلى الأصل وتعرّف القرّاء العرب بمحمد خانجيتش ومؤلفاته الأخرى التي أصدرها في البوسنة بعد عودته من القاهرة. وخلال عملي في إصدار هذه الطبعة الجديدة اكتشفتُ مخطوطة غير معروفة للخانجي بعنوان «من أخبار مصر» كتبها في القاهرة وأخذها معه إلى البوسنة حيث بقيت بين أوراقه إلى وفاته. ومع نشر هذه المخطوطة في دمشق بالاشتراك مع الزميل د. أمين عودة (دار الحصاد 2010) تبيّن أنّ كتاب «من أخبار مصر» هو المؤلف الأول للخانجي وليس كما كان يعتقد «الجوهر الاسنى». وخلال زيارتي لساراييفو لفت نظري الصديق د.أسعد دوراكوفيتش إلى وجود النسخة الأصلية من «الجوهر الاسنى في تراجم علماء وشعراء بوسنة» التي حملها الخانجي معه إلى ساراييفو في 1930 مع تعليقات وإضافات عليها بخط اليد في مكتبة الغازي خسرو بك. وبالفعل فقد وصلت إلى هذه النسخة وصورتها، وبدا معي أن ما فيها يبرّر إصدار طبعة جديدة (خامسة) من «الجوهر الاسنى» في أقرب وقت. كان الخانجي بعد عودته إلى ساراييفو قد استعاد اسمه البوسنوي محمد خانجيتش وبدأ يؤلف بروح جديدة في مختلف المجالات التي برز فيها بعلمه: في علوم اللغة والقرآن والحديث والفقه والتاريخ والترجمة الخ، حتى أن «أعماله المختارة» التي صدرت في ستة مجلدات عام 1999 تضمنت حوالى ثلاثة آلاف صفحة كتبها كلها تقريباً خلال 1931-1944 بالإضافة إلى المؤلفات التي لا تزال مخطوطة بعد! وفي هذا السياق كان من اهتمامات الخانجي أو خانجيتش إعداد طبعة بوسنية لكتابه الذي أصدره بالعربية في القاهرة عن علماء وشعراء البوسنة الذين ألّفوا في اللغات الشرقية. وكان خانجيتش قد قرأ في ساراييفو وهو في المدرسة الثانوية الكتاب الرائد الذي صدر في ساراييفو عام 1912 لصفوت بك باشأغيتش «البشانقة والهراسكة في الأدب الإسلامي» الذي هو عبارة عن رسالته للدكتوراه التي حصل عليها من جامعة فيينا، والذي أشار إليه الخانجي في مقدمة كتابه الذي أصدره في القاهرة «الجوهر الاسنى». كان الخانجي قد استفاد من وجوده في القاهرة للاستفادة من أمهات المصادر العربية والعثمانية، ولكنه بعد عودته إلى ساراييفو وإطلاعه على مزيد من المصادر باللغات الأخرى أخذ يراجع نسخة «الجوهر الاسنى» التي حملها من القاهرة ويضيف عليها بخط يده بعض الإضافات في اللغة العربية وأحياناً قليلة في العثمانية التي يمكن أن تصنف وفق مجموعات عدة. وهكذا يمكن القول إن المجموعة الأولى من هذه الإضافات تتضمن تحديث المعلومات الواردة في «الجوهر الاسنى». فقد كتب في القاهرة عن بعض العلماء الذين كانوا على قيد الحياة ولكنهم توفوا أو كتب عن بعض العلماء الذين كتب عنهم ولحق بهم ليضيف شيئاً إلى ما كتبه عنهم. فقد أورد في «الجوهر الاسنى» ترجمة للعالم البوسنوي سيف الله أفندي الذي صنّف مؤلفات عدة في اللغة العربية، وبعد عودته إلى ساراييفو وجده في أواخر أيامه فكتب بالعربية إلى جانب ترجمته الموجودة في «الجوهر الاسنى» ما يعبّر عن تواضعه وتقديره للعلماء الحقيقيين: «وزرته بعد رجوعي من مصر ووجدته ضريراً لا يبصر، وسٌرّ بزيارتي وبإدخالي اسمه في الجوهر الاسنى وشكرني على ذلك وأظن أنه قال لي: وإن لم أكن أهلاً لذلك ولكن أرجو أن يكون ذلك سبباً أن يذكرني الناس ويترحموا عليّ. وإني أتأسف أنني لم أزره أكثر من مرة فقد كان حسنة من حسنات الزمان، وإن لم يستحق هو أن يذكر اسمه في هذا الكتاب فلا أدري من يستحق، ولكن رحمه الله كان متواضعاً... فلم يكن في الأزمنة الأخيرة في بلادنا من يستحق اسم العالم إلا هو وناس قليلو العدد. وليس العلم بالدعاوي بل بالنشر والتصنيف». ومن هذا التواضع، الذي يعتبر من سمات العالم الحق، نراه يراجع بعض الترجمات ويعترف ببعض الأخطاء التي وقع فيها. فقد ترجم للقاضي والشاعر أحمد البوسنوي ونقل عنه ما وجده في «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» للمحبي وفي «الإعلام» لشمس الدين سامي وأضاف من عنده: «قلت، كان رحمه الله عالماً فاضلاً وقاضياً عادلاً وشاعراً مجيداً» (ص34). ولكن بعد مراجعته للكتاب في ساراييفو أضاف على الهامش جملة ذات مغزى: «نرى أن هذه الجملة غلط فإنه لم يكن شاعراً والله أعلم». ومن المواضيع التي شغلت الخانجي في القاهرة كان جوهر الصقلي أو الصقلبي الذي فتح مصر باسم الخليفة الفاطمي، إذ أنه يأخذ بالرواية التي تقول إنه صقلبي (سلافي) ويتوسع قليلاً للحديث عن الصقالبة أو السلاف في التاريخ الإسلامي. ولكن بعد عودته إلى ساراييفو اهتم أكثر بهذا الموضوع لأنه كان يكتب عنه دراسة نشرها لاحقاً في ساراييفو، ولذلك أضاف هوامش عدة في الصفحة التي تتعلق بالصقالبة أو السلاف في «الجوهر الاسمى» تتضمن المزيد من المصادر والمراجع العربية التي تناولت هذا الموضوع أو كشفت عن شخصيات صقبية مهمة مثل «تاريخ الطبرى» و «نفح الطيب» للمقري « و «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي وصولاً إلى «ضحى الإسلام» لأحمد أمين. ومن الإضافات الأخيرة التي سجّلها في صفحة بيضاء في نهاية «الجوهر الاسنى» أبيات له في العربية تعبّر عن تمكّنه من العربية لغة ونظماً وعن روح التواضع العلمي لديه، وهي التي أضافها إلى الطبعة البوسنوية من «الجوهر الاسنى»: يا صاح إن تلق عيباً زلّ من قلمي فاستره بالصفح تصبح من ذوي كرم فالسهو للانس ضرب لازب أبداً وربنا مالك للعلم والحكم وقد نشرتُ بهذا فضلنا قدما وإننا دائما نسعى مع الأمم ففضل بوسنتنا آياته ظهرت ظهور نار القرى ليلاً على علم فانظر أسامي أهل العلم في صحفي تجد أكابر أهل السيف والقلم ولا تقس يومنا بالأمس قط فما والله نحن لهم نعل لذي قدم فالله يرحمهم والله يجعلنا شبهاً بأسلافنا قوماً أولي همم