يعتبر محمد خانجيتش (أو الخانجي كما عرف في العالم العربي) من علماء البوسنة الكبار في القرن العشرين ومن رموز التواصل الجديد (ما بعد العثماني) بين البوسنة والعالم العربي الاسلامي، حيث إنه كان من الطلاب الذين أرسلوا للدراسة في الازهر وعادوا الى بلادهم بثقافة جيدة وروح جديدة تعكس ما كان في القاهرة آنذاك من تجديد في الفكر الاسلامي مع ما بدأه الشيخ محمد عبده ورشيد رضا... الخ. وكانت البوسنة خلال الحكم العثماني الطويل تنجذب لاسطنبول كمركز لمتابعة الدراسة في مدارسها المعروفة (مدارس الصحن الثماني الخ)، وهو ما حاولت الاحتفاظ به خلال الحكم النمسوي - المجري (1878-1918). ولكن بعد انهيار الامبراطورية النمسوية المجرية والدولة العثمانية في 1918 واندراج البوسنة ضمن الدولة الجديدة (يوغسلافيا) انفتح طريق جديد بين البوسنة / يوغسلافيا ومصر / الازهر حيث ذهب عشرات الطلاب للدراسة هناك. ومن بين هؤلاء أسماء برزت بقوة في الحياة الدينية والثقافية والسياسية للبوسنة ابتداء من جمال الدين تشاؤوتشفيتش وحسين جوزو وقاسم دوبروتشا وبسيم كركوت وانتهاء ب د. مصطفى تسريتش المفتي الحالي للبوسنة. وبين هؤلاء يتميز محمد خانجيتش أو الخانجي (1906-1944) بتكوينه الذي جمع بين الفقه وأصوله والحديث والتفسير والتاريخ والادب وتمكّنه من لغات عدة (العربية والتركية والفارسية بالاضافة الى لغته الام) وإقباله على التأليف بحماسة كبيرة منذ كان طالباً في الازهر الى وفاته في 1944. وكان خانجيتش قد نشر أول كتاب له في القاهرة خلال 1930 بالاسم الذي اشتهر به (محمد الخانجي)، ألا وهو «الجوهر الاسنى في تراجم علماء وشعراء بوسنة»، الذي كشف فيه الكثير عن اسهام علماء بلاده في اللغات الشرقية (العربية والتركية والفارسية). ولكن بعد عودته الى بلاده اشتغل ونشر الكثير من الكتب والدراسات والمقالات في مختلف المجالات (الفقه والتفسير والحديث والتراجم والتاريخ والادب... الخ) قبل موته المفاجئ في 29/7/ 1944. وقد حظي انتاجه المنشور باهتمام اثنين من الباحثين البوسنويين المعاصرين في الدراسات العربية الاسلامية (أسعد دوراكوفيتش وأنس كاريتش) فأصدرا «المؤلفات المختارة» له في ستة مجلدات في حوالى ثلاثة آلاف صفحة خلال 1999م . ولكن انتاجه المخطوط في البوسنوية والعربية لا يزال يحتاج الى اهتمام نظراً الى اهمية ما كتبه وتركه. ومن هذا النتاج، لدينا الآن مخطوطة فريدة في قيمتها لأكثر من سبب، ألا وهي «من أخبار مصر وتاريخها» التي نأمل أن نصدرها قريباً. ويبدو لنا أن هذه المخطوطة، التي لم يكملها المؤلف كما سنرى، تعود الى السنوات الاولى لإقامة الخانجي في القاهرة، حيث إنها كانت أول مؤلف له في اللغة العربية. واذا أخذنا في الاعتبار أن المؤلف كتب ما كتبه في سن العشرين، فيكفي هذا في حد ذاته أن يجعل للمخطوطة قيمة كبيرة سواء بسبب اللغة العربية التي كانت طيعة بين يديه أو بسبب المعارف الكثيرة التي كانت لديه. فالمؤلف ينتقل بين التاريخ والادب والفقه وغريب اللغة والتفسير في تعرضه لتاريخ مصر التي لم يمض فيها سوى سنتين. ويبدو المؤلف واثقاً من نفسه في المقدمة حيث يشير الى أن «هذا كتاب عجيب وترتيب غريب ضمّنته شيئاً من أخبار مصر وتاريخها ونبذاً لطيفة من أنواع العلوم بين تلك الأخبار وفي تضاعيفها». أما ما يجعلنا نحسم أن هذا الكتاب هو أول مؤلف للخانجي، سواء في العربية أو في البوسنوية، فهو أنه يشير بوضوح الى الكتاب اللاحق الذي كان يريد ان يعمل عليه «الجوهر الاسنى في علماء وشعراء بوسنة» الذي صدر في 1930. فقد رأى الخانجي البوسنوي أن يكون في مثل هذا الكتاب عن مصر وتاريخها «فصل في وصف بلدي ومسقط رأسي عاصمة بلاد البوسنة» يعرّف فيه بنفسه وببلاده وأشهر من فيها من العلماء، ولكنه لم يشأ التفصيل أكثر على اعتبار أنه «عزم على تدوين تاريخ باللغة العربية لبلاد البوسنة والهرسك». ويضيف الخانجي قائلاً: «وفكرت في ترتيبه زمناً، ثم ظهر لي أن أقسّمه الى جزءين، يتضمن الاول منهما بيان جنسية تلك البلاد ومن اشتهر من جنسهم مسلماً في البلاد الاخرى قبل دخول الاسلام الى بلادهم، ثم أنتقل الى وصف البلاد وجغرافيتها وخطط عاصمتها وبيان تاريخ بنائها ومساجدها... ثم أبيّن في القسم الثاني أحوالهم العلمية وما بلغوا من العلوم والمعارف ونفعوا باجتهادهم المسلمين، ثم أترجم لكل من عرف فيها من العلماء والصلحاء والشعراء... وأرتب التراجم على حروف الهجاء مراعياً الاسم»، وهو ما ينطبق تماماً على الكتاب الذي ألّفه بعد ذلك وأصدره خلال وجوده في القاهرة بعنوان: «الجوهر الاسنى في تراجم علماء وشعراء بوسنة». أما المؤلف الاول له «من أخبار مصر وتاريخها»، الذي جاء في 47 ورقة تحتوي كل منها على صفحتين باستثناء الاخيرة، فقد وزّعه على شكل «فصول» و «فوائد جليلة» مع استطرادات تمليها المناسبة وتثبت فيها الاحاطة بالعلوم اللغوية والدينية. وهكذا، فهو يبدأ ب «رحلتي الى مصر»، حيث يبين انه غادر سراييفو الى مصر بعد طول شوق لها في أواخر محرم 1345 ه ووصل الى القاهرة في 4 ربيع الاول 1345 ه، ثم ينتقل الى فوائد «الرحلة في طلب العلم» و «نبذة مما قيل في الرحلة من الشعر»، وينتقل بعد ذلك الى جوهر الكتاب حيث لدينا «فصل في فضائل مصر» و «فصل في بعض الأشعار قيلت في مصر» و «فصل في ذم مصر» و «فصل في وصف أهل مصر» و «ذكر سفر أبي الطيب المتنبي الى مصر ووصفه أخلاق المصريين» و «فصل في ذكر النيل». وبعد هذه الفصول العامة لدينا فصول عن «ذكر الأهرام» و «فصل في ذكر شيء مما قيل في الأهرام من الشعر»، ثم ينتقل الى «فتح مصر» و «ذكر جامع عمرو بن العاص» وبعدها لدينا «فصل في تأسيس القاهرة» و «فصل في الازهر» ينتهي معه هذا العمل. ونظراً لأن فتح القاهرة تمّ علي يد جوهر الصقلي، فالخانجي يتوقف هنا ليتحفنا ب «فصل جميل» يقول فيه إنه بحث عن جنس الصقلي «فأدى البحث أنه صقلبي الجنس، أي من الجنس الذي أنا منه». ويستطرد الخانجي هنا في حديثه عن أقدم ذكر للصقالبة لدى العرب ويحقق ما ورد حول اسمهم في الحديث النبوي وما بعده لدى الجغرافيين الرواد. وتجدر الاشارة هنا الى أن هذه المواضيع الاخيرة (فتح القاهرة على يد جوهر الصقلي، تأسيس القاهرة، تأسيس الازهر... الخ) سيحملها معه الخانجي الى البوسنة ويوسعها هناك ليكتبها وينشرها في اللغة البوسنوية. ولكن في هذا المؤلف نجد بعد الفصل الاخير «فصل في الازهر» مجرد عنوان «فصل في وصف الازهر» الذي يفترض انه الاسهل للخانجي باعتباره كان يدرس فيه، ولكن عوضاً عن ذلك نجد قطعاً مباشراً وقولاً مفاجئاً للخانجي يرد فيه: «هذا ما سوّده الفقير الى الله تعالى محمد بن محمد الخانجي من تأليفه، هذا ولم يتم منه الا ما هو موجود هنا، وكان الغرض إحراقه فترك على عيوبه والله المسؤول أن يلقي ستره الجميل علينا». ويبدو لنا أن الخانجي الشاب قد تهيّب في نهاية المؤلف الاول له، على رغم اعتماده الكبير على كبار المؤرخين والجغرافيين (المقريزي وياقوت الحموي... الخ)، وكاد أن يحرق ما كتبه لشكّه في انه ليس في المستوى المطلوب، ولكنه لحسن الحظ أحجم عن ذلك وترك لنا هذا المؤلف القيم الذي نأمل أن يكون بين يدي القراء قريباً. * أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت - الاردن