في بداية عهدي ب«توِيتِر»، كتبت ردّاً على «تويت» لا أتذّكر محتواه للكاتب البرازيلي الشهير پاولو كويلو، وبالطبع لم أتوقّع أن يقرأه وهو من حيتان المتابعين العالميّين، قلت فيه: «قد نكون جميعاً ضحايا، ولكن هناك ضحيّة تستسلم، وضحيّة تُقاوِم». ففاجأني ردّه برابط لتدوينة له قائلاً: «اقرأ هذه». كانت التدوينة عن حالة نفسيّة تُسمى «العجز المتكيّف» (learned helplessness)، وهي خلل يُصيب الإنسان أو الحيوان يجعله يتعوّد على السلوك العاجز فلا يتجاوب مع فرص متاحة لكي يُساعد نفسه بأن يتجنّب ظروفاً مزعجة أو يغنم عائداً إيجابيّاً، وذلك لأنّ إدراكه قد تكيّف على انعدام التحكّم في تحديد ما يؤول إليه وضعٌ ما. وينتهي الأمر بالكائن الحيّ المتكيّف على العجز إلى الاكتئاب الحادّ والنقص الشديد في الثقة بالنفس وأمراض نفسيّة أخرى ذات صلة. العجز المتكيّف نظرية عالم النفس الأميركي المؤثّر مارتن سيلغمان (MartinSeligman) بناءً على بحوثه عن الاكتئاب التي بدأت عام 1967 في جامعة پنسلڤينيا. وكان الاكتشاف من خلال تجارب تمّ فيها تعريض مجموعة كلاب إلى ألم متكرّر لا تستطيع تجنبّه، وفي النهاية يئست الحيوانات مِن محاولة تلافي الألم وتعوّدَت على تحمّله. ولمّا أتيحت لها الفرصة لإيقاف الألم، استمرّ السلوك العاجز لدى الكلاب مصحوباً بلا مبالاة ونزعة إلى ادّخار جهد الانشغال بالألم (أي بالعامّيّة «كبّرَت دماغها»)، وظهرت عليها أعراض شبيهة بالاكتئاب السريريّ المُزمن. وفي تجارب أخرى على بشر طُلِب منهم أداء وظائف ذهنيّة في وجود ضوضاء، كان إتاحة الخيار لإسكات الإزعاج بمفتاح كهربائي كفيلاً بتحسين الأداء على رغم عدم الاستفادة مِن استعمال المفتاح، أي أنّ مجرّد الوعي بتوفّر خيار إيقاف الضوضاء قلّل مِن تأثير تشويشها بشكل كبير. كما اتّضح أنّ الإنسان يتميزّ عن الحيوانات بإمكان تكيّفه على العجز «بالوكالة» أي من خلال مراقبة غيره يعاني فقدان التحكّم في وضعه. وإضافة إلى أعراض يشترك فيها مع الحيوانات كالسلبيّة والعدوانيّة المغروسة ونقائص اجتماعيّة وجنسيّة، توجد أعراض تشخيصيّة لدى الإنسان كالمزاج المُغتَمّ والشعور بانعدام القيمة وتخيّل الانتحار. ومِن تدوينة كويلو: «يمكن اعتبار العجز المتكيّف آليّة يستعملها البعض للنجاة أو التعايش مع ظروف صعبة أو اضطهاديّة. فقد ينتهي الأمر بطفل معنّف أو زوجة أن يتكيّفا على السلبيّة والخنوع للمعتدي لأنّ محاولة المقاومة أو الهروب تبدو بلا جدوى». ونقرأ أيضاً: «العجز المتكيّف ناتج عن ترويض المرء ليكون مُثبّتاً ضمن نظام ما، مثل عائلة أو مجتمع أو ثقافة أو تقاليد أو مهنة أو مؤسّسة. ينشأ النظام في البداية لغاية معيّنة، لكن مع تطوّره ينتظم حول معتقدات وممارسات ومحظورات تخدم استمراره. تغيب الغاية الأصليّة عن الوعي ويعمل النظام بشكل ذاتيّ، فيتكلّس». مِن السطور الأولى للتدوينة بدأتُ قي تصوّر العجز المتكيّف كحالة وطنيّة، وتذكّرتُ نظريّة «الشعب المكتئب»، وثقافة الانهزام والحدّ الأدنى وفقدان الثقة بالنفس، والتشبيهات والألقاب التهكّميّة على «ربعنا» و«جماعتنا» و«حريمنا» و«رجالنا» و«عيالنا» أو «بزارينّا»، وطافت في خيالي هاشتاغات تْوِتِر الساخرة والمثيرة للسخرية، ثمّ الساخرة مِن المثيرة للسخرية، ونكات البلاك-بيري التي كشفت روح فكاهة شعبيّة مكتسَبة بدأت في مجاراة شقيقتها المصريّة. ثمّ تأملتُ فيما وراء ذلك مِن سلبيّة تُكرّس مِن حيث لا تدري حتميّة شؤمنا، والعدوانيّة التي تنفجر فجأة في بيوتنا وشوارعنا، والمشادّات القاتلة، والثقافة العنفيّة، وأحلام السفر إلى الخارج، والتوجّس مِن أمثالنا المتجذّر في تدنّي الإحساس بذواتنا. وبدأت أشعر... بالعجز المتكيّف. كم فرد منّا يدرك فقدان التحكّم في وضعه وتعوّده على عجزه؟ ما أثر حاصل الإدراك الجماعيّ بالعجز العامّ والتكيّف عليه على المجتمع؟ ما مدى عَمانا عن فرص تحسين أوضاعنا؟ وما مدى استعدادنا أصلاً لاستغلال تلك الفرص حتّى إن رأيناها؟ ما تأثير ما شهدناه من عجز آبائنا علينا إذ تكيّفنا على تكيّفهم عليه؟ وأمّهاتنا؟ يا إلهي، ما مدى العجز التي تكيّفتْ عليه الأنثى وكلّ مَن لجأ إلى حضنها يوماً ما؟ كم مِنّا ينظر إلى أُفق خياراته، فلا يرى إلا قحولة على مدّ البصر؟ لا شكّ أنّ هناك الكثير مِن الآلام التي نعانيها ولا نعيها إذ تبلّد إحساسنا بها، وإن وعيناها نظنّ أنفسنا حكماء بإدراك عبث المحاولة للتخلّص منها فلا نُبالي. وإن لم نُبالي بآلامنا فماذا يستحقّ مبالاتنا؟ والاضطهاد الذي يتكبّده الأضعف مِن الضعيف والضعيف مِن القويّ والقويّ مِن الأقوى، وكلّ فرد مِن ذي سُلطة عليه، كم مِنه يُمكن إيقافه لو لم يتكيّف المضطهَد مِنّا على عجزه؟ فالخنوع تَربّيْنا عليه كشرطٍ لنَيْل ما نحتاج، والمقاومة مِن الغباء إذ ستُشعل غضب مضطهدنا فيزداد شراسة ويوغل في اضطهادنا. والهروب ليس خياراً، فلا مهرب أصلاً. بل ربّما لهول عجزنا غالَيْنا في التكيّف عليه، فوجدنا في العجز سُنّة حياة، ما أضعفنا، ولكن ما أحكَمنا في وعينا بضعفنا، ليس كغيرنا المخدوعين. هناك من يجد نفسه مختنقاً، فبدلاً مِن يسعى لإزالة أسباب الاختناق لأنّ ذاك مُحال في نظره، يُبالغ في التعايش فيتحدّى العالَم ويقول: نعم، أستطيع أن أعيش مختنقاً، بل هذه طبيعة الحياة وجميعنا يُفترض أن نعيش هكذا وإلا نافَيْنا فِطرتنا. ولكن لم تتكيّف كلّ كلاب سيلغمان بالعجز الدائم، فحوالي ثلث العيّنة تمكّنوا مِن إيجاد مخارج مِن حالة مزعجة على رغم تجاربهم السابقة المحبِطة معها. واقترنَت الصفة المقابلة لهذه الظاهرة لدى الإنسان بالتفاؤل. فإن أردنا التصدّي للعجز المتكيّف، لنتذكّر كلمتين: الأمل، فهو لا ينضب؛ والتعلّم، فعندما نفشل نقترب مِن هدفنا لأنّنا اكتشفنا طريقة لا تنفع واكتسبنا خبرة لاكتشاف طريقة تنفع. وهكذا نُقاوِم ولا نستسلم، لأنّ الخيار الثاني لا نتيجة له إلّا الهلاك. * كاتب مقيم في جدّة. [email protected]