ينهمك العقل الأمني الأردني في القفز عن أسباب المشكلات والذهاب إلى محاصرة النتائج. وكان آخر إبداعات هذا العقل تسييج الدوار الرابع المقابل لمقر رئاسة الحكومة للحيلولة دون الاعتصامات التي اعتادت قوى المعارضة إقامتها عليه. وسبق لهذا العقل أن تغاضى عن البحث عن الأسباب التي أدت إلى تنفيذ أكبر اعتصام في تاريخ الحراك الأردني ما بعد «الربيع العربي»، وكان على دوار الداخلية في قلب العاصمة. دوّار الداخلية جرى تحويله إلى «كانتونات حدائقية» ضيقة جداً، وزرع ورود في أصص إسمنية لمنع وصول المعتصمين إليه، وبخاصة تيار 24 آذار (مارس). لكنّ صلادة أصص الزهور لم تمنع قوى الحراك من تنفيذ اعتصام في الذكرى الأولى لاعتصام 24 آذار الذي فضّته قوى الأمن بالقوة في 25 آذار 2011، ما أوقع قتيلاً وعشرات الجرحى. ويعكس هذان الحدثان الطريقة التي يتعامل بها الأردن مع المشكلات، وهو ما أوصل البلاد الآن إلى مرحلة من الاستعصاء السياسي الحاد، وانسداد الآفاق. فالملك عبدالله الثاني، العائد من رحلة طويلة شملت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، يمثل المفتاح لهذه الأزمة وفق المراقبين السياسيين ونشطاء الحراك في الأردن ممن يترقبون هذه الأيام خطوة الملك المقبلة، حتى إن بعض الصحف اليومية كتبت تعليقاً بعنوان «الملك مفتاح الفرج»! وأكبر معضلة تواجه الملك الآن، هي كيفية الخروج من مأزق مقاطعة الانتخابات المتنامي نتيجة تشبث الحكومة وأجهزة القرار بقانون الصوت الواحد في الانتخابات التي يصر الملك على إجرائها نهاية العام الجاري. ومن شأن حدوث الانتخابات، وفق المقرر الملكي، ومع زيادة وتيرة المقاطعة، أن يكرر سيناريو العام 2010، حيث قاطعت القوى السياسية وفي مقدمها الحركة الإسلامية الانتخابات آنذاك، ما أفرز برلماناً اعترف قادة أجهزة أمنية أن الكثير من أعضائه جاءوا من طريق التزوير! ويحاول بعض المراقبين التندّر على حالة الاستعصاء بالقول إنه ما دامت السلطة مصرّة على قانون الصوت الواحد، فما جدوى حل البرلمان (قبل موعده)، وإجراء انتخابات وفق قانون سيفرز نواباً لن يكونوا مختلفين عن النواب الحاليين. فهؤلاء المراقبون يرون أن العلة تكمن في قانون الانتخاب الذي يساهم في تفتيت البنى الاجتماعية، ولا يساعد في المشاركة المبنية على التعددية السياسية والبرامجية، ويناهض الأحزاب والتكتلات، ويضخّم من شأن التمثيل العشائري والعائلي والمذهبي، ويغذي الاصطفافات التي من المفترض أن تنشأ في (مرحلة ما قبل الدولة). وبما أن قانون الصوت الواحد قد مرّ بمراحله الدستورية بعدما أمر الملك بإجراء تعديل طفيف عليه لم ترضَ عنه المعارضة، فإن هناك من يقول إن لا مجال أمام الملك سوى المصادقة على القانون، في حين يقلل آخرون من احتمالية أن يرد الملك القانون ويطالب بتعديله مرة أخرى، بما يحقق المطالب الشعبية، ويتيح للقوى السياسية والإخوان المسلمين المشاركة في الانتخابات المقبلة. وهناك أصوات تنادي بفرض حالة الطوارئ، اعتماداً على التطورات في سورية، وحل البرلمان وتشكيل حكومة تضع قانوناً موقتاً للانتخابات يكون توافقياً، لأن التعديلات الدستورية الأخيرة حصرت إصدار القوانين الموقتة بحالات محدودة جداً من بينها الحرب أو الكوارث! وتصح، ههنا، مقولة «الملك مفتاح الفرج»، لأن ثمة مقولات سبقتها ذهبت إلى أن الحل والعقد بيد الملك الذي يتحكم بالسلطات جميعها. وحكاية «السلطات جميعها» هي أبرز ما تتوقف عنده القوى السياسية المعارضة، وفي طليعتها الإسلاميون الذين يطالبون بوجبة تعديلات دستورية تنص على تعديل المواد 36،35،34 والتي تضمن (على التوالي) تحصين البرلمان من الحل، وتشكيل الحكومات وفق الغالبية البرلمانية، وانتخاب أعضاء مجلس الأعيان (الذين يعيّنهم الملك) أو إلغاء المجلس والاكتفاء بمجلس النواب. المشكلة لدى صانع السياسة في الأردن أنه يفكر ويتصرف خارج نطاق تحولات «الربيع العربي»، ويعتقد أن من السهل والمبرَّر حكم الناس بالعقلية القديمة والاشتراطات الماضية التي كانت تتعامل مع المواطنين كرعايا، وليسوا كشركاء في الحكم وصناعة المستقبل! * كاتب وصحافي أردني