بعض الأخبار التي نقرأها يكشف حقائق مريعة تضطرنا إلى إعادة قراءتها مرات ومرات. في تركيا حكومة بلغت السلطة بعد أن التزمت أمام ناخبيها القضاء على آفة التعذيب التي عانت منها تركيا عقوداً طويلة. ثم نقرأ عن تعيين ضابط في الأمن في منصب رفيع المستوى في مديرية أمن اسطنبول. والمستهجن في الخبر أن هذا الرجل دين مرتين بتعذيب متهمين ومشتبه بهم، أي أن سجله أسود. وحكمت عليه المحاكم التركية بتهمة التعذيب، ثم أهملت التهمة وألغت التحقيق فيها. فتوجه صاحب الشكوى إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية التي قضت بأنه تعرض للتعذيب على يد ذلك المسؤول، وحكمت على تركيا بإهمال محاسبته والحكم عليه. فكيف يصل صاحب مثل هذا السجل إلى منصب بارز في الأمن؟ ما الخدمات التي تنتظرها الحكومة من رجل كهذا؟ ألم يكن الإسلاميون والمتدينون والمحافظون يشكون انتشار التعذيب في عهد الوصاية العسكرية في تركيا؟ فكيف بعد وصول المحافظين والإسلاميين إلى الحكم يتولون هم حماية مَنْ يمارس التعذيب وترقيته؟ إلى اليوم، ترفض هذه الحكومة كشف اسم الجنرال الذي أعطى الأوامر بقصف قافلة مهربين أكراد وقتل 34 شخصاً منهم ظناً أنهم مسلحون انفصاليون. ولا تزال الحكومة تتستر على ذلك الجنرال عوض أن تحاسبه، وتتستر على الجنرال الذي أمر طائرة استطلاع بأن تحلّق على مقربة من الأجواء السورية وأن تسير في مسار خطر في ظل أجواء التوتر في سورية، الأمر الذي أدى إلى إسقاط الطائرة. وتتستر الحكومة على جنرالات في خدمتها، في وقت يسوق القضاء جنرالات آخرين إلى السجن بتهمة السعي إلى إسقاطها. وقدمت الحكومة إلى البرلمان مسودة دستور جديد يحد من حرية الإعلام. فالحكومة التي تتستر على خطأ ما وتتستر على معلومات كثيرة، لا بد أن يزعجها الإعلام. في الماضي كان الجنرالات يفعلون ما يحلو لهم، ويعاقبون كل مَنْ يحاول كشفهم أو مساءلتهم، فما الذي تغير اليوم؟ أخطاء العسكر يرتكبها اليوم مدنيون، والديموقراطية لا تترسخ من طريق توسل الحكومة الوصاية العسكرية. فالسبيل إلى الديموقراطية هو انفصال السلطة القضائية عن الوصاية العسكرية والوصاية المدنية السياسية. والديموقراطية تقتضي كشف المسؤول عن مقتل المهربين الأكراد ومحاسبته، والمسؤول عن حماية طائرتنا، ومنع أي مسؤول مدان بالتعذيب من العمل في أي وظيفة حكومية. هل ننتظر أن يقع إسلامي أو متدين ضحية لعملية تعذيب كي تستفيق هذه الحكومة وتدرك خطأها؟ طالما بقي الإسلاميون بعيداً من سيف التعذيب، ستتواصل فصول الوصاية العسكرية والقمع الأمني. وطالما أن ضحايا التعذيب هم من غير الإسلاميين لن يلتفت إليهم المسؤولون. ولكن، على هذه الحكومة التي تطالب بالديموقراطية والحرية لشعوب الجوار والشرق الأوسط أن تدرك أن تغاضيها عن التعذيب وعملياته سيجعلها يوماً ضحية لانتشار التعذيب. فآفة التعذيب وعدواه لا حدود لها ولا رادع. وحريّ بالمسؤولين ألا ينسوا أن من اخترع المقصلة ليسهل على السلطة قطع رؤوس الناس، مات هو نفسه تحت سيف المقصلة. * رئيس تحرير، «طرف» التركية، 23/7/2012، اعداد يوسف الشريف