يصعب العثور على فنان معاصر تمكن مثل الفنان الألماني الكبير جيرار ريختر من إعادة ابتكار نفسه مرات، وبالتالي من طرح رؤية جديدة للفن وتاريخه، في كل مرة. وهذا ما يفسر النجاح الذي يلاقيه حالياً معرضه الاستعادي في مركز بومبيدو الذي يسمح لنا، من خلال مئة وخمسين لوحة، بالتعرف إلى مختلف مراحل فنه وبالتآلف مع إنجازاته الكثيرة وطبيعة عمله. من مواليد مدينة دريسد الألمانية عام 1932، فرض ريختر نفسه على الساحة الفنية الأوروبية منذ بداية الستينات بواسطة لوحات مستوحاة من صور فوتوغرافية شكلت بسرعة بديلاً مثيراً عن أسلوب البوب آرت الأميركي والفن اللاشكلي الأوروبي اللذين كانا طاغيين آنذاك. ومع أن هذه الأعمال تتميز بحياد تعبيري كبير نظراً إلى نسخ الفنان داخلها صوراً منشورة في الصحف أو التقطها بنفسه، لكن مواضيعها تشهد على مواجهته الباكرة لماضي ألمانيا النازي وللثقافة الاستهلاكية. وعلى خلاف مارسيل دوشان الذي أعلن مراراً نهاية فن الرسم كوسيط فني، دافع ريختر بشكل ثابت عن آنية هذا الوسيط وحداثته. فمن خلال لوحاته الضخمة التي تمثل مناظر وجبالاً وغيوماً وتشكل دعوةً إلى اختبار روحي مرتبط بتأمل طبيعة عظيمة، متسامية وغامضة، يظهر الفنان كوريث شرعي للتقليد الرومنطيقي الألماني الكبير، وللعملاق كاسبار فريدريش تحديداً. لكن مع سلسلة «غيوم» التي أنجزها عام 1968، استعار من دوشان مفهوم المصادفة الذي قاده إلى التحول الثابت وإلى التشكيك بمفهوم الشكل وإلى تحديد منهج عمل يقوم على التشكيل المضاد. وفي هذا السياق نفهم جملته الشهيرة: «لا أمتثل لأي مقصد أو نظام أو نزعة ولا برنامج لدي أو أسلوب أو ادعاء. أحب الحيرة والارتياب وعدم الأمان الثابت»؛ جملة وضعها بسرعة موضع التنفيذ بتسجيله قطيعة راديكالية مع لوحاته الأولى وبتطوره في نهاية الستينات نحو التجريد. ففي سلسلة «مدرجات الألوان» التي استوحاها من عينات الألوان التي تقترحها متاجر بيع أدوات الرسم والتلوين داخل ألبومات خاصة، تخلص الفنان من أي جهد تصويري أو حركية أو رسالة باعتماده شكل موحد، المستطيل، وألوان ملساء تحضر بترتيبات مرتجلة. وفي الثمانينات، انتفض ريختر على هذا الأسلوب بتشكيلات أكثر فأكثر غنائية تنفجر داخلها التدرجات اللونية ضمن حركية قوية وتتواجه لطخات عشوائية وضربات ريشة دقيقة ومسطحات لونية ملساء بشكل يحيي تناقضات مدهشة. وفي هذه اللوحات الضخمة، لم يسع الفنان إلى تشييد فضاء تشكيلي متناغم بل إلى منحنا أعمال تنشط كنماذج عن عالم متنوع وفي حالة تحول دائم. وفي التسعينات، استمر ريختر في تحقيق لوحات مجردة مستعيناً هذه المرة بمكشط كبير لطلي ألوانه ومنحها شكلاً سائلاً بتدرجات مختلفة، وذلك ضمن حركات أفقية أو عمودية ومقابلات تفضي إلى مفاعيل مادية فريدة. وتخفي الطبقات اللونية المسقَطة في شكل عبثي على سطح هذه اللوحات جزءاً كبيراً من فضاءاتها وتترك مساحات أخرى صغيرة مكشوفة. وغالباً ما عمد الفنان إلى حك أو اقتلاع الألوان الواقعة في هذه المساحات ضمن سيرورة تشييد وتفكيك ثابتة. شك وكآبة أما اللوحات المعتمة التي حققها خلال مرحلة مصبوغة بالشك والكآبة فانبثقت من فعل تدميري. إذ نتيجة عدم رضاه عن بعض لوحاته التصويرية، قام الفنان بمحوها عبر طلائها بطبقة لونية رمادية. وحول هذا الموضوع، قال: «الرمادي هو أيضاً لون وأحياناً اللون الأهم في نظري. إنه انتفاء الرأي، العدم، اللاشيء». وبفضل تدرجات الرمادي وتموجات الضوء الناتجة من ذلك وطريقة طلي هذا اللون بالفرشاة أو الريشة أو الأصابع، بلغ ريختر تنويعات بصرية وتباينات مثيرة بين لوحة وأخرى، قبل أن يقابل هذه اللوحات بأعمال أخرى أنجزها في الفترة ذاتها وتستثمر حدة بصر المتأمل بها وإسقاطاته أمامها، ونقصد «الألواح الزجاجية» التي فجرت مفهوم فن الرسم بتحويله إلى مجرد نافذة مفتوحة على العالم. لكن حداثة ريختر الراديكالية لن تمنعه من الالتفات إلى الخلف ومن رد إلى الكلاسيكية كل اعتبارها. وفي هذا السياق، قال: «الكلاسيكية هي ما يسمح لي بالوقوف، ما يمنحني الشكل والعافية. إنها النظام الذي لن أشكك به أبداً. إنها ما يتحكم بالسديم أو ما يحتويه كي أستمر في الوجود». ومن بين مواضيع فن الرسم الكلاسيكي التي أعاد الفنان إحيائها، يحتل المشهد الطبيعي موقعاً مهماً في عمله، إلى جانب البورتريه ورسم الأحداث التاريخية. وكما في بداياته، اعتمد لرسم مشاهده على صور فوتوغرافية التقطها خلال أسفاره أو في محيطه. وفي هذه الأعمال، تتجلى الطبيعة في كل عظمتها منزهةً من أي حضور بشري، يطغى عليها أحياناً مناخ ضبابي وشفاف مصدره تقنيات تظليل مختلفة تعزز جانب اللوحات الكئيب واللازمني. وفي موضوع البورتريه الذي اختبره منذ منتصف الستينات وحصر مواضيعه بعائلته وأقربائه، تشدنا اللوحة التي رسمها لعمه رودي انطلاقاً من صورة التُقطت لهذا الأخير باللباس العسكري النازي قبل وفاته في الحرب، كما يشدنا بورتريه خالته ماريان التي قتلها النازيون بسبب تخلفها العقلي. ويتناقض مناخ هذين البورتريهين المعتم والمرتبط بتجربة الحرب المؤلمة بالمناخ الحميمي والهنيء لبورتريهات زوجته وأولاده.