إذا ثبت مصرع عرفات بجرعة مميتة من البولونيوم المُشع - 210، فلربما أعاد الأمر كتابة التاريخ الطبي لهذا النوع من الوفيات. فلحد الآن يعتبر الروسي ألكسندر ليتفيننكو، هو الحال الأبرز لهذا النوع من التسمّم. وكان ليتفيننكو عميلاً لجهاز المخابرات «كي جي بي» قبل أن يفرّ الى لندن، حيث قضى بجرعة من هذه المادة المُشعة دُسّت له في الشاي، في العام 2006. التسمّم الحاد بالمواد المُشعّة بسبب سهولة ذوبانه في سوائل الجسم، يصل البولونيوم المُشعّ - 210 عند ابتلاعه، الى أنسجة الجسم كافة. ويتركز في بعض الخلايا أكثر من غيرها، خصوصاً الكلى، والطحال، والكبد، وكريات الدم الحمر، ونخاع العظم، والجهازين الهضمي والتناسلي. وتُطرح هذه المادة من طريق البول والعرق والتنفس وعصارة المرارة والبراز، كما يتركّز في الشعر. ويقدّر أن الجرعة السامة تؤدي الى اختلاط سبع ذرات من البولونيوم مع كل خلية في الجسم، ما يضرب أنوية الخلايا، خصوصاً الحمض النووي. وتختلط الأشعة الصادرة عن البولونيوم، وهي من نوع «ألفا» الكبيرة الحجم، مع الحمض النووي في خلايا نخاع العظم، فتتوقف عن صنع الكرات البيض وهي المُكوّن الأساسي للمناعة. وتقف هذه المعطيات في أساس الصورة المرضية لما يعرف طبياً باسم «التسمّم الحاد بالمواد المُشعّة» Acute Respiratory Syndrome، واختصاراً «إيه آر أس» ARS. وتتألف الصورة المرضية لهذا التسمّم من 3 مراحل. تبدأ المرحلة الأولى بأعراض تشمل القيء والغثيان والاسهال مع هبوط في عدد الخلايا البيض، خصوصاً اللمفاوية منها. وتزداد حدّة هذه الأعراض مع زيادة الجرعة المُشعّة. وفي المرحلة الثانية، يحدث بعض التعافي في حال المريض، مع حدوث تساقط في الشعر واستمرار الفشل في تكوين خلايا المناعة. وأخيراً، يدخل المريض مرحلة من الفشل السريع في عمل الأجهزة الحيوية الأساسية، خصوصاً الجهاز العصبي المركزي (غيبوبة) والجهاز الدوري. ويسير المريض سريعاً الى الموت خلال بضعة أسابيع. وتعتمد هذه الصورة المرضية على الجرعة، بمعنى أن زيادتها تزيد في حدّة الأعراض وسرعتها. المزايا الفيزيائية للسم البولوني اكتشف الزوجان كوري مادة البولونيوم المُشعّ - 210 قبل قرابة قرن. وأطلقت عليها مدام كوري اسم بلدها الأصلي: بولونيا. وتفوق هذه المادة في سميّتها مادة ال «سيانايد» (أشد السموم التقليدية)، ب250 ألف ضعف! وفي التجربة التي أظهرتها قناة «الجزيرة» قبل أسابيع، تبيّن وجود آثار لهذه المادة في بقايا بول في سروال داخلي لعرفات. بلغ تركيز المادة المُشعة في البول 180 ميلليبكيريل، فيما التركيز الطبيعي لهذه المادة لا يزيد على 5 ميلليبكريل. ويستعمل البيكيريل كأحد وحدات قياس الأشعة. وثمة تفصيل يتعلق بدورة البولونيوم، إذ أنه يفقد نصف قوته المُشعة خلال 138 يوماً، ثم يحتاج الى مدة مُشابهة لفقدان نصف النصف الباقي، ثم 138 يوماً لفقدان نصف الربع وهكذا دواليك. وبقول آخر، مرّرت هذه المادة بعشرين دورة «فقدان النصف» منذ وفاة عرفات في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2004، إلا أن تركيز أشعة هذه المادة في جسد عرفات كان يفوق ما اكتشفه الفريق السويسري بملايين المرات، وهو قريب من التركيز الذي كان موجوداً في جسم ليتفيننكو عند وفاته. ويقدّر أن ابتلاع كمية تتراوح بين 10 و30 ميكروغرام (الميكروغرام هو جزء من مليون من الغرام) من البولونيوم المُشع، تكفي لقتل إنسان بالغ. وعلى رغم ضآلة هذه الكمية في الوزن، إلا أن شدّتها الإشعاعية تكفي لإحداث فشل في الأجهزة الأساسية للجسم. ويتطلب الحصول على هذه الكميّة الوصول الى مفاعل ذريّ نشط. ولم يكن في منطقة الشرق الأوسط، حينها، من مفاعل ذريّ سوى في إسرائيل. وفي المقابل، يسهل نقل هذه المادة من دولة الى اخرى، لأن أشعة ألفا التي تبثها، لا تخترق المواد الصلبة، حتى لو كانت برقة ورقة عادية، ما يُسهل مرورها اختبار آلات الكشف. وقبل مصرع ليتفيننكو، لم تكن هذه المادة مُدرجة في قوائم السموم، ما يفسّر، ولو جزئياً، عجز المستشفى الفرنسي عن التعرّف إليها، في حال كانت مسؤولة فعلياً عن وفاة عرفات.