ولدت ماييف برينان في دبلن عام 1917 في أسرة مثقفة. كان والدها من مناضلي الحركة القومية الإرلندية، فلما تحررت إرلندا أصبح أول سفير لها في الولاياتالمتحدة الأميركية. تمتعت ماييف منذ الصغر بقدر كبير من الفضول والدأب والحركة، وبعكس أخوتها فقد كانت تشتط في اهتماماتها وميولها الفكرية. لم تتزوج حين بلغت سن الزواج مثلما فعلت أخواتها، بل هي كرست نفسها للقراءة والكتابة والنشاط الثقافي. وسرعان ما انتقلت إلى نيويورك وصارت تكتب في صحف عدة إلى أن استقرت في مجلة النيويوركر وأصبحت كاتبة عمود ثابت فيها. آنذاك بدأت بكتابة القصة القصيرة. وفي نهاية الأمر تزوجت من رئيس تحرير المجلة ويليام ماكسويل، الذي كان قاصاً وروائياً. غير أن الزواج انتهى بالفشل والطلاق، وهو ما أدى بها إلى ترك المجلة والوقوع في دوامة من اليأس والوحدة إلى أن قاربت الجنون وقضت بقية عمرها في المصحّات العقلية حتى وفاتها عام 1993. كانت قصصها ومقالاتها الصحافية مملوءة على الدوام بميل نوستالجي إلى عوالم طفولتها وحنين مرضي إلى مسقط رأسها، إرلندا. وقد جمعت تلك القصص، التي بلغت الأربعين قصة، في مجموعة كاملة ونشرت في نيويورك عام 1970، غير أنها لم تستقطب اهتماماً كبيراً. وفي عام 1990 أعيد نشرها في مجموعتين قصصيتين. كان النسيان لفّها ولم ينتبه القراء كثيراً إلى هذه الكاتبة الغريبة ولم يكترثوا لتلك النصوص على رغم الإطراء الذي أغدقه عليها كتاب مثل إدوارد البي وأليس مونرو وزوجها السابق ويليام ماكسويل نفسه. لم يكن إسم ماييف برينان يعني شيئاً لأحد حين تم العثور أواخر عام 1999، على نص من سبعين صفحة بالآلة الكاتبة بين أوراق مهملة كان أقاربها نقلوها من نيويورك إلى دبلن. سرعان ما تبين أن النص رواية قصيرة كانت ماييف كتبتها في بدايات نشاطها الأدبي بعد انتقالها إلى الولاياتالمتحدة وقبل زواجها من ويليام ماكسويل. حين عرض النص على الناشر الشهير كريستوفر كاردوف، صاحب دار نشر «أتلانتيك بوكس»، لم يتردد في نشره. النص الذي يحمل عنوان «ذي فيسيتور» (الزائرة) نشر في الولاياتالمتحدة عام 2000 ثم في المملكة المتحدة عام 2001 ومن ثم أعيد نشره تباعاً وبيعت حقوق ترجمته في عدد من البلدان. هذه رواية قصيرة (نوفيلا) تكاد تكون سيرة ذاتية للكاتبة. هي حكاية فتاة إرلندية، اسمها أناستازيا، تعود إلى مسقط رأسها في دبلن للعيش مع جدتها بعدما قضت سنوات طويلة في باريس مع أمها التي كانت انتقلت إلى هناك هرباً من زوجها. أناستازيا الآن وحيدة بعد أن توفي أبوها وأمها ولم يبق لها أحد سوى جدّتها. غير أن الجدة لا تستقبل حفيدتها اليتيمة بالأحضان بل تروح تعاملها ببرود وقسوة. منذ البداية تحذرنا الكاتبة من الخطأ الجسيم الذي نميل إلى ارتكابه: اللجوء إلى الماضي بصفته الخلاص من الحاضر. ما مضى لن يتكرر أبداً وما كان بيتاً دافئاً لن يوفر الملاذ الآمن بعد أن يمضي بنا العمر أشواطاً. الزمن عدو لا يمكن الوثوق به أبداً. «البيت هو مكان ذهني، تقول الكاتبة، حين يهجره ساكنوه يصير مخيفاً. لا يبقى من البيت سوى ظلال ذكريات ووجوه وأشياء انقضت واختفت». الذهن هو الفاعل الوحيد الذي يتكقل بمحاولة ترميم المكان الزائل. إنه البطل الشقي الذي يتصدى لمهمة مستحيلة، فما كان لن يتكرر أبداً. ولهذا فإن العودة إلى المكان الأول، مثلما تفعل بطلة الرواية أناستازيا، لا تفعل سوى تعميق الجرح وتكديس الأحزان. فضلاً عن هذا، فمن كانوا أحباء بالأمس قد يتحولون إلى خصوم شديدي الضجر. «الزائرة» رواية مكثفة تختزن قدراً كبيراً من العناصر القوية التي تجعل منها نصاً إبداعياً رفيع المستوى. بجمل قصيرة وخاطفة تخطف الكاتبة أنفاس القارئ الذي يغوص بين ثنايا سطور متدفقة كماء يجرف معه الأشياء من دون توقف. يخيم في فضاء الرواية جو خانق من الكآبة وشعور ثقيل بالخسران تزيد الكاتبة من وطأتهما بإشارات متلاحقة عن السير المدمر للزمن الذي يتلف كل شيء في طريقه. ها هنا يجتمع الحب والكره والعشق والنفور في جدول من السرد الرشيق حاملاً على ظهره حمولات المشاعر الإنسانية التي ما برحت تتلاطم منذ أدرك الإنسان أن بين جوانحه قلباً يخفق وأنه يحنّ ويفرح ويتألم ويحزن بانتظار النهاية المروعة. تبدو أناستازيا مثل الحيوان الصغير في قصة فرانز كافكا، «الجحر»، فهي تجاهد من أجل أن تصون المكان الذي لجأت إليه كمأوى بعد أن تهاوى من حولها ذلك العالم الآمن الذي كانت تشكله أمها والمحيطون بها. لن تدخر أناستازيا ما في وسعها كي تحمي بيتها، قلعتها. ستدافع عنه بنواجذها إن تطلب الأمر وستقاتل كل من يحاول الاقتراب منه حتى ولو كانت جدتها. هذه هي رسالتها في ما بقي لها من عمر. هذا هدفها في الحياة. ستحمل صخرة قدرها وتمضي بها إلى الأعلى. العدو الذي يهدد أمن أناستازيا: جدّتها. إمرأة طاعنة في السن، مملوءة بالغل والضغينة لأن أم أناستازيا تركت كل شيء وراءها وذهبت تعيش بعيداً عنها وعن زوجها، ابن الجدة. الجدة حاقدة على أناستازيا لأنها رحلت برفقة الأم ولم تمكث بجوار والدها وجدّتها. ها هي أناستازيا معها تحت سقف واحد. تحاول الجدة أن تنفث من أعماقها ذلك الكره الذي تراكم عبر السنين وتصبه على رأس أناستازيا. ستنتقم الجدة من زوجة إبنها بأن تفتك بحفيدتها. سيكون بيت الطفولة الذي عاشت فيه أناستازيا السنين الأولى من عمرها ساحة رهيبة لصراع مهلك. لا تملك الجدة أدنى شفقة نحو حفيدتها اليتيمة. في مكان الشفقة ثمة خزان من الحنق والحقد والازدراء. ثمة أيضاً رغبة قاهرة في الانتقام. سرعان ما نكتشف أن الجدة نفسها هي التي دمرت الحياة الزوجية لابنها بأن حرضته طوال الوقت على زوجته، أم أناستازيا. فالشر الكامن في أعماقها أشبه بغريزة دفينة تهلك كل من يقف في طريقها، أكان ذلك ابناً أم زوجة ابن أم حفيدة. هذه إمرأة أنانية لا تعرف حدوداً للشر ولا تشبع من إتلاف أي شيء تطاوله يداها. مع الحفيدة تبدأ غريزة القتل تشتعل من جديد في أعماق الجدة، وفي الحال تبدأ لعبة المطاردة والاختباء بين الجانبين: الجدة تركض حثيثة كي تدمر والحفيدة تسعى من أجل أن تستعيد الطمأنينة والهدوء. ترقى رواية ماييف برينان إلى مصاف الأعمال الإبداعية الكبيرة التي تلخص الطباع البشرية بحنكة وتمنحها بعداً رمزياً عابراً للشخصيات الفردية. البطلة هنا ترتدي لبوس أمثولة خالدة تصلح للارتداء في غير مكان. وشبه إدوارد إلبي ماييف برينان بأنطون تشيخوف، ووصف جون أبدايك هذه الرواية القصيرة بالقول إنها نتاج عقل يقظ ورؤية نافذة. إنها أشبه بسنونوة ثاقبة النظر تراقب المخلفات الشائنة للسلوك البشري. ورأت صحيفة الصنداي تايمز في الرواية عملاً خالداً وتساءلت: كيف أمكن هذا النص الأدبي الرفيع أن يبقى طي النسيان كل هذه السنين من دون أن ينتبه إليه أحد، سواء في حياة الكاتبة أو بعد مماتها؟ تضيء الرواية جوانب من حياة الكاتبة، هي التي غادرت بلدها وتركت وراءها أقاربها وأصدقاءها، غير أنها تشكل في الوقت نفسه احتفاء عاطفياً بدبلن، المدينة التي لم تغادر ذاكرة المؤلفة وسيطرت على مشاعرها فصارت تنظر إلى كل الأماكن كما لو كانت امتداداً لدبلن.