هل هي نهاية النظام السوري، أو على الأقل بدء العد التنازلي باتجاه النهاية؟ هذا ما أوحى به تفجير مبنى الأمن القومي في قلب دمشق، والذي نتج منه مقتل أركان من «خلية الأزمة»، هم بالطبع أعمدة في السلطة، وانتشار العمليات العسكرية داخل العاصمة. الحدث منعطف مهم في مسار الأزمة السورية، فهو الضربة الأولى الجدية، أو الموجعة التي يتلقاها نظام بشار الأسد. بل تُوازِن العملية في شكل ما انفلات ذلك النظام في ارتكاب المجازر، واحدة تطوي أخرى، فتُنسينا الحولة بابا عمر الذي أنسانا درعا، وتأتي التريمسة لتتربع فوق جبل الجماجم، هذا إذا لم تُذكر إلا «الحالات» التي تَرافق فيها القتل الجماعي مع التفظيع بالناس فرداً فرداً... إرهاب دولة يقابله لجوء إلى أساليب غالباً ما تصنف إرهابيةً، وإن كان التحدي الذي يواجه سورية اليوم هو كيفية تجنب الانزلاق إلى إرهاب أهلي، ظهر بعض ملامحه في الانتقامات التي استهدفت مجموعات مدنية معزولة من العلويين على أساس فرضية «انتمائها» إلى النظام بحكم المولد، وهو ما لا يد للإنسان فيه، وكذلك في شعارات رددتها تظاهرات كانت تتوعد بالرد على مجازر النظام ب «إبادة» العلويين. ويوجد شك حقيقي، ومشروع، في مقدار انزعاج السلطة من اتجاه الأمور إلى هذا المنزلق. فهو يوفر لها فرصة لتجريد مزيد من القمع بحجة حماية «السكان الأبرياء الآمنين»، وللتساوي مع المنتفضين في البشاعة. كما يوفر لها ذلك تجييش جمهور إضافي، يتجاوز بكل المقاييس حالة الشبيحة، ليصل إلى استنفار عصبية أقلية مذعورة. والنظام في ذلك يتابع، وفي طور جديد خطير، ما كان فعله عندما خطط لحرف الانتفاضة عن طابعها السلمي، وشجع تسليحها، بل نظمه إلى حد بعيد، ظناً منه أنه يسهِّل على نفسه مهمة القضاء عليها إذ يحصرها في «مجموعات مسلحة». وكان في ذلك قصير النظر كالعادة، يهرب من المعضلة المباشرة، غير آبه بما يخبئه الغد من ورطة أعظم. وهذا للقول إن السلطة القائمة، وإن تلقت ضربة قاسية في العملية التي أدت إلى مقتل بعض أركانها، إلا أنها ليست على وشك الانهيار، ولا هي تترنح. فهي ما زالت متماسكة حول نواة صلبة، وما زالت تملك العديد من الأدوات الفعالة. وهنا، ليس المقصود ما بدأ كنوع من المبالغات، وانتهى على لسان سوزان رايس عقب اجتماع مجلس الأمن، إذ ردت على الفيتو الروسي- الصيني الثالث بالإعراب عن خشيتها من استخدام السلطة السورية للأسلحة الكيماوية التي في حوزتها، في تهويل يذكِّر ب «نمرة» كولن باول السيئة الصيت أمام المجلس، حين لوح بكيس السكر على انه عينة من أسلحة كيماوية يوشك صدام حسين على استخدامها. وكان ذلك جزءاً من «مونتاج» قرار الذهاب إلى الحرب ضد العراق. لكن الفارق كبير، إذ أن الولاياتالمتحدة ليست اليوم بصدد تكرار السيناريو إياه. ليس لأن هناك انتخابات رئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر)، بل لعدم رغبة الفريق الحاكم في واشنطن في الحروب، وهذا اختلاف جذري عن زمن المحافظين الجدد. ولأن حرباً مثل هذه تهدد بإشعال دائرة أوسع بكثير من الرقعة السورية، تشمل في واحدة من حلقاتها إسرائيل. ولأن ظروف العالم تغيرت، حيث سورية هي اليوم العنوان الأبرز لاستئناف الحرب العالمية الباردة، وهي قاعدة ثمينة لروسيا التي ستستميت لعدم خسارتها، وهي جزء من لعبة القط والفأر مع أميركا بالنسبة إلى الصين. ولأن الاستفراد الأميركي في العالم انتهى (وهو لم يدم طويلاً في نهاية المطاف)، ولأن هموم الولاياتالمتحدة الأولى باتت تركز على منطقة آسيا- الباسيفيكي والدائرة الصينية، وليس على الشرق الأوسط، وهو أمر معلن رسمياً من قِبلها كاستراتيجيتها على أية حال... لكن ذلك لا ينهي المشكلة، ولا يجعل السلطة في سورية مطلقة اليدين، ولا يمكِّنها من استعادة زمام الأمور. وهي لن تستعيد السيطرة على البلاد، وكأن شيئاً لم يكن. هذا احتمال فَشِلَ وولّى. فثمة جناح آخر تطير به الأزمة السورية، وهو لا يقل أهمية عن تلك المعطيات الجيوستراتيجية. إنه البعد السياسي- الاقتصادي- الثقافي، أي المجتمعي الداخلي الذي حمل الناس على طلب الإصلاح الجدي، وهو حق مشروع، وعلى الطموح لحياة كريمة لا يوجد عاقل يمكن أن يجادل في إلحاحه. ثم، ونتيجة امتزاج القمع والفساد، أي انفلات آلة القمع البشعة في يد سلطة فاسدة ونزقة، انتقل المطلب إلى رحيل النظام، فأمعن، ما أوصل الناس إلى درجة الانعتاق من الخوف، ملامسين تلك النقطة المأسوية حيث تتساوى الحياة بالموت... وهذا مسار محقون بالفواجع، يجعل التراجع عنه أو السكوت، ولو غُلْباً، مستحيلاً. بل هو يصعِّب الى حد الاستحالة التوصل إلى تسوية، اياً تكن (استحالة أخرى!). المأسوية في الموقف السوري هي تنابذ جناحي أزمتها وتنافرهما، بحيث تبدو محجوبة أو غائبة إمكانية الوقوع على نقطة يتمفصل فيها الجيوستراتيجي والمجتمعي. ولكن، هل فرضية «التسوية» ممكنة أصلاً في الحالة السورية؟ هل ما يبدو من استعصائها يعود فحسب الى المسار المغرق في العنف الذي نَحَتْ إليه سريعاً، والى قلة نضج المعارضة السياسية وانعدام خبرة بعضها وارتباطات بعضها الآخر، أم يتعلق الأمر بالدرجة الأولى بطبيعة النظام، الذي لا توفر بنيته «جسماً وسيطاً» يمكنه إيجاد تسوية ما، أياً تكن، وفرضها. وهو ما حدث في مصر وتونس مع الجيش، بل في المغرب مع الملك، الذي يمثل في آن قلب النظام القائم، وسلطة أعلى من النظام، تكاد تكون «مقدسة»، وهي بصفتها تلك تبدو فوق الجميع ويمكنها في نهاية المطاف فرض التسوية التي تعيد كل الأطراف تحت سقف واحد. وبديل التسوية هو الذهاب إلى «نهاية المطاف»، أي وعدٌ بمزيد من الدمار والإنهاك... إلى أن تحين ظروف جديدة، أو مصادفة حاسمة، تفتح الباب لمخرج وحده الله يعلم الشكل الذي سيكون عليه.