لم ينتظر الفلسطينيون، شعباً وقوى سياسية، الإعلان عن وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات للتعبير عن اقتناعهم بأنه مات مسموماً تنفيذاً للتهديدات المتكرّرة التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك آرييل شارون. لم يأتِ ذلك من فراغ بل من «البيئة» التي سبقت تلك التهديدات وكان عنوانها الأبرز فرض الحصار وتضييقه على أبو عمار في مقرّه في المقاطعة والذي وصل إلى حد اعتباره «تحت الإقامة الجبرية» في مساحة جغرافية ضيقة. مع ذلك أشعل التحقيق الذي قامت به «قناة الجزيرة» نقاشات الأوساط الرسمية والشعبية: في التحقيق خلاصات تفترض الذهاب نحو أبعد من الشك والاتهام، أي نحو بعث المسألة برمتها مجدداً والذهاب بعيداً مع القضاء العالمي في توجيه تهمة القتل العمد للدولة الإسرائيلية. ذلك يستدعي بالطبع فحص رفات الرئيس الراحل لأخذ عينات منها، وفحص ما إذا كانت تحمل آثار «البلونيوم» التي أفاد تحقيق الجزيرة بأنه وُجد على بعض أدوات عرفات وثيابه. في احتمالات التحقيق المنشود ثمة من خطط لتسميم عرفات ولكن ثمة أيضاً من يفترض أنهم ساعدوا وقاموا بالتنفيذ ودس السم للزعيم الراحل سواء من خلال طعامه، أو حتى مقتنياته وأدواته اليومية، وهؤلاء يفترض المنطق أنهم من الأوساط القريبة منه، أو على الأقل من بين من تمكنوا بطريقة أو بأخرى من الوصول إليه. إثارة القضية مجدداً وعلى هذا النحو الجدّي جاءت هذه المرة في مناخ سياسي فلسطيني عنوانه الأبرز والأكثر إثارة الخلافات والصراع في أكثر من مسألة وعلى أكثر من صعيد. ليست الحالة السياسية في مناطق السلطة الفلسطينية طبيعية ولا صحية، وهي لهذا استقبلت قضية تسميم الرئيس الراحل بمزيد من الشك والتوترات وحتى الاتهامات ولو بصور وأشكال مواربة. في مناخ كهذا يشير بعض المراقبين إلى «تقاعس» القيادة الفلسطينية عن متابعة قضية أبو عمار طيلة السنوات الماضية، وهي تستجيب اليوم تحت ضغط التأثير الكبير لنتائج التحقيق الذي أجرته «الجزيرة»، والتي تجبر الجميع على الخروج عن صمتهم والانخراط في تحقيق جديد، واسع ومتشعب هذه المرة وصولاً إلى الحقيقة النهائية. أول ما نفترضه هنا هو الاحتكام إلى القضاء وأوَل إجراءاته التحقيق الحر والكامل مع كل من يحتاج التحقيق سماع أقوالهم وشهاداتهم أياً تكن مناصبهم ومواقعهم السياسية أو الإدارية أو الأمنية، من دون أن يعني ذلك اتهاماً نهائياً لأحد. التعاون الكامل مع التحقيق لا يجوز أن تشوبه شائبة، أو أن تؤثر فيه أسباب سياسية من أي نوع. في قضية سياسية وجنائية كبرى كهذه لا يجوز لأحد أن يستثمر الشكوك والاحتمالات لتوظيفها ضد خصومه السياسيين، أو توجيه الشك في اتجاه مَنْ يختلفون معه، خدمة لهدف تصفية الحسابات السياسية أو الشخصية. نعرف أن هذا من أبسط قواعد التحقيق القضائي، لكننا نحذّر منه بسبب تراكم «تراث» فلسطيني صاخب في هذا المجال. الحالة الفلسطينية تجتمع اليوم (شعبياً على الأقل) على هدف معرفة الحقيقة في قضية أبو عمار، لكننا نعتقد بأن الوصول لهذه الحقيقة يفرض على الجميع، سلطة وأجهزة أمنية وفصائل، التعاون الكامل مع التحقيق والاستجابة لكل ما يتطلبه من إجراءات من دون إغراق التحقيق في جدالات واتهامات سياسية نعتقد بأن مكانها ليس التحقيق الجنائي، بل إنها لن تساهم إلا في إرباكه وتضليله وإعاقته عن الوصول إلى مدياته النهائية.