أثارت مقالات القيادي الإسلامي في جماعة الإخوان المسلمين في الأردن رحيل غرايبة والتي نشرها في صحيفة «العرب اليوم» (4 و5 و6) تموز(يوليو) 2012، عن صفوف الجماعة وتخندقها، بين معسكرين هما الصقور والحمائم، أسئلة كثيرة، وتوقعات ربما كانت أكثر من مقاصد الغرايبة النقدية. فبعض المراقبين رأوها انفكاكاً بين الغرايبة والجماعة أو دنواً من الانفكاك، بعد أن انفك سابقاً شقيقه إبراهيم، في حين رأى قسم آخر أنها مقالات تعكس التوتر والانقسام داخل الجماعة الإسلامية في الأردن والتي انقسمت بين جماعتين بتأثير مباشر بالمشهد الفلسطيني. وفي حين يرى قسم آخر أن إخوان الأردن يختلفون عن غيرهم بسبب المكون الفلسطيني في الأردن، فإن السبب الأقرب لمقالات رحيّل غرايبة وهو الباحث المختص بالنظام السياسي الإسلامي والذي فصل من التدريس من جامعة آل البيت بعد العام 2000، يمكن أن يكون في باب المراجعة الفكرية وهو السيناريو الأقرب. لم يشر رحيّل الغرايبة، وهو اليوم رئيس المكتب السياسي وعضو المكتب التنفيذي لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، إلى أي نية للاستقالة من جماعة الإخوان وهو، وإن كان حاول عقلنة الجماعة وتوجيهها نحو القضايا الوطنية، إلا أنه لم يكن مستعداً لتأكيد الانطباع عن القيادات الشرق أردنية في صفوف الجماعة باعتبار أنها لا تعمر طويلاً في الحركة، بخاصة عندما يجد بعضها أن خيارات الحركة وأجندتها بعيدة عن الهم الوطني الأردني كما تكرر سابقاً مع قيادات إسلامية إخوانية مثل القيادي السابق في الجماعة بسام العموش وعبد الرحيم العكور وغيرهما. في ظل مشهد محلي أردني يحضر فيه الإخوان كمعارضة يصرون على أن تسمع الدولة صوتهم وفي ظل صعود الهوى الإسلامي حتى عن قوى فلسطينية أردنية بدعوى الحقوق المنقوصة، وحتى مقولة المواطنة التي تفهم في الأردن على أنها توطين رسمي عند البعض وهو وإن كان فهماً خاطئاً، وفي ظل تعنت الإسلاميين عن المشاركة في الحوار الوطني والإصرار على قانون انتخاب يوافق هواهم، يبدو أن مشهد الانفراج غير ممكن، حتى وإن قال قيادي الحركة رحيل غرايبة إن مقاطعة الانتخابات تساوي استرداد الشعب الأردني قراره وسلطته، علماً أن أسباب المقاطعة للانتخابات المقبلة والتي أعلنت عنها الحركة مؤخراً تبدو وجيهة ومقنعه وأسبابها قانون الانتخاب الجديد، وهو ما يؤكده الحزبيون والنقابيون من غير الإخوان المسلمين، لكن الأردنيين جميعاً لا يقبلون على الأحزاب ونسبة الحزبيين لا تذكر. في الأردن اليوم أزمة هوية تغلف كل هذه المواقف الإخوانية، وهناك وطنيتان داخل الحركة كما في بقية مجاميع المجتمع، وطنية فلسطينية تشعر بأن مشروعها الوطني انكسر، وهي لا تبرئ الأردن من مسؤولية ذلك الانكسار، وثمة وطنية أردنية لا تمانع بالتقدم الديموقراطي لكن دون حلول على حساب السكان الأصليين، وهذا الواقع هو ما يجعل الحركة الإسلامية تسعى إلى إثبات شرعية التغلغل، فتختار الذهاب لمناطق العشائر أحياناً لتحصد فيها قليلاً أو كثيراً من التأييد يعكس حضورها. لذلك، تتعزز أزمة الإخوان المسلمين في الأردن سياسياً، فهي تبدو اليوم بصورة مخالفة لما كانت عليه في لحظة التأسيس أواخر أربعينات القرن العشرين، فالحركة التي أخذت شرعيتها من النظام وحصلت على دعم غير مباشر من قبل مؤسس المملكة الأمير عبد الله بن الحسين بن علي، والتي نالت التغطية المباشرة وأقر بوجودها الملك الحسين، والتي ساندت نظامه السياسي في مواجهة التيارات اليسارية في أواسط الخمسينات من القرن العشرين وبخاصة ضد انقلاب 1957 الذي دبره القوميون والناصريون، هي اليوم في وجه مغاير لوجهها الذي لبسته عند تأسيسها وظلت عليه حتى أواسط التسعينات. التغيير الذي أصاب الحركة الإسلامية ويلقي بظله الثقيل عليها اليوم يجعلها تبدو وللمرة الأولى (ربما) بعد أكثر بعد 65 سنة من تأسيسها، في حالة مغايرة لما كانت عليها إذ انتقلت من موقع الحليف للنظام إلى علاقة ندية لم تخل من لحظات تأزيم، وهو ما يعكس حالة وتوجهات ورغبات واختراقات من خارج جسمها التنظيمي ومن خارج الأردن أيضاً، وبالطبع فإنها حالة تدعو إلى القلق عندما يتحول تجمع سياسي واجتماعي كبير إلى حراك لا يعبر عن الجدل الداخلي الحقيقي أو التطلعات والاحتياجات التي ينتظرها المواطنون من وراء المشاركة السياسية لحزب جبهة العمل الإسلامي والحركة الإسلامية بعامة، فكيف حصل ذلك التغيير؟. في دراسة تاريخ الحركة الإسلامية في الأردن، يعطى العامل السياسي دوراً مهماً في التحليل، كما تعطى مسألة الثقافة والحركة الوطنية وتاريخها أهمية قصوى في تتبع مسار الأفكار، كما تعطى القضية الفلسطينية بتطوراتها ونتائجها أولوية في رصد التأثيرات التي ألقت بظلالها على فكر إخوان الأردن الذي يرى كثيرون أنه صودر لصالح البحث عن خلاص ورغبة في الخروج من أزمة فلسطين ولو عبر الأردن. نقطة التحول الفكري السياسي للحركة تبدأ عام 1990 مع عودة قادة «حماس» من الكويت للأردن وتغللهم في جسم الحركة، وفي عام 1999 مع طرد قادتها من الأردن بدأ ظهور تيار «حماس» في جسم الحركة وصاروا يمثلون الحركة في الإخوان، وفي العام 2002 سيطر الحمساويون على المكتب التنفيذي لإخوان الأردن وتحالفوا مع الصقور، فيما تحالف المعتدلون في التيار مع رموز الاعتدال الذين يمثلون الأردنيين، وصار هناك مسميان: «الصقور» وهم الفلسطينيون المتشددون ودخل معهم مؤخراً أردنيون من الجيل الرابع في الحركة اقرب لحماس ومعظمهم من الشباب، وفي المقابل هناك المعتدلون من نفس الجيل الذين التفوا حول وجوه الاعتدال في الحركة وغالبيتهم من أصول شرق أردنية، فكيف تشكلت محطات الحركة والدولة معاً؟. ربما لا يملك أي منا الإجابة عن ظرفية الحال الإخوانية، فأهل الإخوان أدرى بشعاب مواقفهم، لكن التقدير يظهر أن الجماعة في مواقفها الراهنة، من رفضها للمشاركة بالحوار الوطني أيام حكومة البخيت ثم قبولها بالجلوس مع حكومة الخصاونة ومفاوضتها على المقاعد والحصص، ثم رفضها لقانون الانتخاب قبل التصديق والذي أرسلته حكومة الخصاونه للبرلمان، ثم مناشدة الملك لإنقاذ القانون لأنه تجاهل توصيات الحوار الوطني الذي قاطعوه، ثم العودة إلى مقابلة مدير المخابرات لترتيب ما، وصولاً إلى قرار المقاطعة، كل ذلك يعكس عدم الوضوح والارتباك. ومرد هذا التناقض، أنه يأتي نتيجة لحالة احتجاجية داخل منظومة الجماعة على التطورات التي طرأت داخلها، وهي على مستويين من مستويات التدين، الأول فكري والآخر تعبدي، وبين هذا وذاك انحرافات حصلت داخل الإسلام الحركي برمته. هذه الانحرافات في الأردن هي نتيجة لما قامت عليه الجماعة من خروج على الرسالة العقدية ومنهج الدعوة القائم على إنجاز مهمة الإصلاح الديني والتربوي وهامشية الإصلاح السياسي، مقارنة بالمهمة العبادية. ولعل وجود الصقور والحمائم اليوم بصيغ مواقف فكرية وسياسية، هو انعكاس جلي لتحدي انقسام الجماعة، وهو ما حاول القيادي رحيّل غرايبة أن يشير إليه في مقالاته مؤخراً. * كاتب وباحث أردني