لكل ثورة خطابها السياسي، ولقد حاولت الثورة السورية أن تنتج خطابها، رغم طابعها العفوي واعتمادها على شباب كان الاستبداد الطويل قد فرض عليهم «الخواء الفكري» بعد أن أصبحت «خطابات الرئيس» هي الفلسفة والتاريخ والسياسة وكل فروع العلم. من يتابع خطاب المعارضة على الإعلام يلحظ أنه يتخذ سياقات ثلاثة: الشتم وتقريع السلطة و «كشف» جرائمها، الندب على الشهداء، واستجداء العالم من أجل التدخل ل «وقف المجزرة». لقد أصبحت الثورة السورية مجزرة، وباتت الإدانة ضرورية للسلطة التي تمارسها، وبالتالي تجب استثارة «النخوة» العالمية من أجل التدخل لوقفها. كيف يمكن أن تتحوّل ثورة إلى مجزرة، ويصبح الندب هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عنها، ويكون تحليل اسبابها هو التركيز على «فواحش» السلطة من دون أي مسٍّ للواقع الذي فرض حدوثها؟ ثم يجري بعدها الانطلاق من الإقرار بالعجز الذاتي، بما يفرض بالتالي دعوة العالم للتدخل. كل ذلك يؤشر إلى غياب الخطاب السياسي، ويوضّح أن هذه المعارضة لا تمتلك تحليلاً للواقع السوري، ولطبيعة الثورة، وتلتمس مشكلات عاشتها وتعيشها من أجل الوصول إلى انتصارها، أضف إلى ذلك تحكُّم سطحية مذهلة في الفهم، جعل الأمر يتعلق بتبيان استبدادية السلطة وقمعها فقط، دون تلمس التكوين الذي أوجدته في الواقع، وجعل كتلاً أساسية تعيش تحت خط الفقر. لقد رأت السلطةَ وممارساتها القمعية ضد العمل السياسي، لكنها لم تلحظ آثار النهب الذي مورس وفَرَض تمركزَ الثروة بيد أقلية عائلية حاكمة، وبالتالي إفقار كل هذه الكتلة البشرية وتهميشها. ومن هنا، فقد فشلت في تلمس ظروفها، ومن ثم فشلت في توقّع إمكانية ثورتها، حيث ألقت عليها كل الأحكام السيئة، من الخضوع والخنوع، إلى قدرة البعث على فبركة وعيها وإخضاعها، إلى جهلها وما إلى ذلك. ولهذا مازالت لا ترى إلا السلطة وممارساتها، ولهذا السبب تكرِّر كل الكلام الذي يقال منذ عقود حول الاستبداد والحاجة إلى الديموقراطية، دون تلمّس مطالب الطبقات الشعبية التي انتفضت، وفهم مقدرتها وقدرتها، وبالتالي العمل -كما يفعل كل حزب حقيقي في وضع ثوري- على تنظيم نشاطها وبلورة برامجها، وتحديد السياسات والتكتيكات الضرورية لتوسع الثورة وتطورها، وصولاً إلى كيفية انتصارها، وتحقيق ذلك عبر العمل مع الشعب المنتفض وليس في الهواء الإعلامي. الثورة تحتاج إلى خطاب قوة وعنفوان وليس إلى خطاب ندب، إلى خطاب فهم وتفهيم السياسات الضرورية لتطورها ولمس كل التفاصيل اليومية التي تتعلق بالنشاط على الأرض، وليس إلى خطاب ردح واستجداء، خطاب يوضح المطالب والشعارات التي تساهم في توسع الثورة عبر كسب المترددين وشل المؤيدين. ولقد كان همّ السلطة طيلة الفترة الماضية يتركز على إبقاء المترددين مترددين لكي لا ينضموا إلى الثورة، وتركّز خطابها الإعلامي على ذلك، ومع الأسف كان ناجحاً. أما خطاب المعارضة (وهنا يمكن القول إنني أقصد معارضة الخارج خصوصاً، او القوى الأساسية فيها)، فقد أفضى إلى نتيجتين، الأولى دفع قطاعات مجتمعية إلى الالتصاق بالسلطة، والثانية إبقاء تردد المترددين. ولقد تحقق ذلك عبر تركيزها على التدخل الخارجي الذي كان يخيف قطاعات مجتمعية مهمة، و «النفس الأصولي» الذي كان يخيف الأقليات الدينية وقطاعات من العلمانيين، في وضع كان لانضمام هؤلاء أهمية كبيرة في تسريع انتصار الثورة، نتيجة المواقع المفصلية لأفراد من بعضها (وهنا العلويون)، وبالتالي تسريع إضعاف السلطة وتفكيكها. ما يبدو هو ان المعارضة ظلت «خارجية»، ليس بالمعنى المكاني فقط بل بمعنى فهم الثورة ومسك بنيتها وصوغ الخطاب الذي يعبّر عنها، فلا الندب يفيد، حيث باتت السلطة مكشوفة إلى أبعد حدّ حينما يقرر الشعب إسقاطها، من ثم لا حاجة لمزيد من مراكمة «الكشف» و «الفضح» لتاريخها وممارساتها، خصوصاً بعد أن اصبحت تشاهَد بالعيان، ولا رثاء الشهداء بصفتهم قتلى يفيد، بعد أن اصبحوا أبطالاً، وبات من الضروري توضيح جرأتهم وقوتهم. وليس المطلوب أن تُستغل الثورة من أجل مطلب «سخيف» يتعلق بالتدخل «العسكري من أجل الوصول إلى السلطة بغض النظر عن انعكاس هذا التدخل على الثورة، وعلى سورية ككل. لقد توسعت الثورة من دون فعل «سياسي»، وشملت سورية كلها من دون تأثير المعارضة، اللهم سوى التأثير السلبي الذي كان يؤخّر توسعها نتيجة تخويف فئات اجتماعية كان يجب ان تنخرط سريعاً فيها. هي تفكِّك السلطة بقوتها وليس بفعل سياسي، وينشا فيها شباب يمتلك المقدرة على القيادة من دون الحاجة إلى أحزاب تعيش في «عالم آخر». بالنسبة لهذه المعارضة، يمكن أن أكون تحدثت «سانسكريتي»، فمن لم يدرس الكيمياء لا يستطيع فهم معادلاتها. أقصد من لم يفكّر في الثورات، وكيف تحدث وما هو دور الفعل السياسي فيها، لن يفهم ما أقول. * كاتب سوري