السياسة فنٌّ راقٍ يتلازم، وفق أرسطو، مع الطبيعة البشرية. لكن هذه النظرة الكلاسيكية المثالية قد تتناقض مع ما يعيشه العالم اليوم من ريبةٍ متزايدةٍ تجاه «السياسة» والمشتغلين بها. وتأخذ هذه الريبة في منطقتنا بعداً قاتماً؛ فالشأن العام مغيّب، والسياسة مشوّهة، والابتعاد عنها مُندرجٌ في باب الفضائل. وتزداد الصورة تعقيداً في سورية، حيث تخيّم سلطةٌ مستبدةٌ على مجتمعٍ غنيٍ ومتنوع، في ظل دولةٍ لم تنضج مفاهيمها. ومنذ انفتاح فضاء الشأن العام مع الانتفاضة السورية في آذار (مارس) 2011، والسياسة المشوّهة تخضع، وفي شكلٍ حثيث، إلى تشويهٍ إضافيٍ ومستمرٍ على مبدأ «تشويه المُشَوَّه»، حتى باتت هذه الظاهرة المركبة (أي تشويه السياسة المشوهة) قضيةً تستحق في رأيي الوقوف عليها لبحثها وتحليلها. لعله من البديهي والمُكرّر أن نشير بدايةً إلى أن النظام هو المُتهم الأول في ترسيخ هذه الظاهرة المركبة. فقد عمد النظام، بتحجره الاستخباراتي وبنيته الاستبدادية، إلى تفريغ الحياة السياسية بطريقة ممنهجة، ما أدى، على مستوى المواطن السوري، إلى تضخمٍ في الشأن الخاص على حساب الشأن العام الذي تمت مصادرته واحتكاره من قبل السلطة. ومنذ انطلاق الحراك الشعبي في سورية سارعتْ أجهزة إعلام النظام إلى النيل منه وتشويهه وربطه بأجنداتٍ خارجيةٍ ومؤامراتٍ كونية، عبر تكرارٍ لخطابٍ قديم/ جديد. ولم تَسْلم من هذا التشويه حتى المفاهيم الإنسانية المجرّدة التي تتجاوز في جوهرها حدود الممارسة السياسية البحتة: فصارت الحرية شتيمة، والتعبير عن الرأي إرهاباً، والمجتمع المدني رديفاً للاستعمار وغيرها. لن أطيل في الحديث عن دور النظام في «تشويه السياسة المشوهة» فالقصة معروفة، ولكن من الضروري الإشارة إلى أن المعارضة السياسية لعبتْ، وللأسف، دوراً في هذا التشويه. إذ يتصرف معظم «المعارضين السياسيين» في ظل المأساة التي تعيشها سورية بطريقةٍ «غير سياسية»، يغيب عنها الفعل المؤثر والإيجابي في مسار الأحداث، مع انكفاءٍ عن لعب دور الحامل التنويري في فضاء السياسة. ففي أحسن الأحوال لا يتقن هؤلاء «المعارضون السياسيون» العمل السياسي، وفي أسوئها فهم لا يملكون أمرهم، أو هم صنيعةٌ لإعلامٍ جعل منهم أبطالاً في الزمن الخطأ. ومما يُؤسف له هو أن بعض «المعارضين السياسيين» يمارس، بحسن أو بسوء نيّة، تشويهاً وإقصاءً يطاولُ الجهات المعارضة القليلة التي تؤمن بالسياسة، وبأهمية القول والعمل السياسي. ويمكن الربط بين دور المعارضة السياسية في هذا التشويه، وبين حالة اللانضج السياسي الذي تتمتع به، والأمثلة على ذلك كثيرة. فعوضاً عن دعم اللقاء التشاوري للمعارضة، أو ما بات يُعرف «بمؤتمر سميراميس»، والذي كان علامةً فارقةً (على بساطتها) في نشاط المعارضة خلال عقود، تمّتْ مهاجمته وتشويهه بحجج واهية. كما يمكننا أن نذكر التنصل من الاتفاق على ورقة مشتركة بين جهتين معارضتين مطلع هذا العام، وانسحاب الجهتين ذاتهما أخيراً من مؤتمر القاهرة ما أعاق جهود «توحيد المعارضة». نضيف إلى ذلك التعثر في عقد مؤتمر للوفاق الوطني، والتخبط والتناقض في التصريحات والمواقف الصادرة عن شخصياتٍ معارضة تنتمي إلى أحد أطراف المعارضة (فيما يتعلق مثلاً بالتدخل الخارجي والتسلح ومهمّة عنان). وقد أدى كل ذلك إلى ضررٍ متعدد المستويات. فمن ناحيةٍ أولى تم تشويه الحراك السياسي (على بدائيته) في نظر الحراك الشعبي، ما أعاق بناء جسور الثقة كما يجب، وأجهض المحاولات الخجولة لفتح فضاء العمل السياسي. حيث تكثر في حواراتنا مع ناشطين متميزين عباراتٌ من قبيل «نحن نعمل على الأرض وليس في السياسة»، أو «هذا وقت الثورة وليس وقت السياسة»، وكأن السياسة رجسٌ قذرٌ لا يجوز الاقتراب منه، متناسين أن العمل الثوري هو عملٌ سياسي، فأي اشتغالٍ في المصلحة العامة هو عملٌ سياسيٌ بالنهاية، كما أن السياسة ليست محصورةً بالمعنى الحزبي الضيق. ومن ناحيةٍ ثانية تم تصوير الشعب السوري المنتفض بمظهر العاجز المحتاج حتى يتسنى البيع والشراء به في المحافل الدولية. ومن ناحيةٍ ثالثة فشلت القوى المعارضة، التي اعتادت تشويه العمل السياسي، في تقديم أي بدائل عمليّة. ومن ناحيةٍ رابعة لم تنجح معظم قوى المعارضة السياسية في تقديم نفسها كلاعبٍ مقنع على المستوى الإقليمي والدولي. وبالمحصلة انتهى الأمر بالحراك السياسي لأن يكون مبتوراً خجولاً يتيماً من دون حاملٍ اجتماعي، وبالحراك الشعبي لأن يبقى عفوياً وغير قادرٍ على الحسم، وقد ساهم ما سبق في شكلٍ أو في آخر بانتقال المشهد السوري إلى حالةٍ معقدةٍ من الاستعصاء. وكان لاجتماع العوامل السابقة دورٌ أساسيٌ في ترسيخ (أو إعادة ترسيخ) العلاقة الفاترة مع «السياسة» في ظل المشهد السوري، بخاصة إذا أخذنا في الاعتبار حالة «التصحر السياسي» الذي بلغ أوْجَهُ خلال العقود الماضية، من دون أن ننسى أنه وريث قرونٍ من الاستبداد. ومع تأكيد أن ممارسة السياسة واجتراح الحلول ليست وظيفة الجماهير، بل مسؤولية من يقدم نفسه كمشتغلٍ في السياسة، فقد وجد المواطن السوري المنتفض نفسه بين سندان النظام، ومطرقة المعارضة المراهقة، ما فاقم في معاناته، وزاد من تعقيد المشهد السوري، ومن مأسوية الوضع (كما حدث في مجزرة الحولة الرهيبة). لقد قتل هذا النظام روح السياسة، وجاءت أطرافٌ من المعارضة لتزيد من «تشويه السياسة المشوهة». وعاجلاً أم آجلاً سندرك، نحن السوريين، عمق «التصحر السياسي» في سورية على مستوى الثقافة والحضور والممارسة والموارد البشرية والإرث الفكري. كما سندرك الأثر السلبي لهذا التصحر في المشهد السوري الحالي والمستقبلي. لهذا، علينا الإعداد منذ الآن لما هو آت بالاعتماد على الكفاءات الشابة التي أفرزها الحراك الشعبي. لن يكون هذا الدرب السياسي سهلاً، ولكنه دربٌ لا بد أن نمضي فيه إن أردنا بناء دولةٍ سوريةٍ حديثةٍ وقويةٍ ومزدهرة. * أكاديمي وعضو مؤسس لتيار بناء الدولة السورية