استدراك الرئيس المصري الجديد محمد مرسي خطأ قراره بإعادة مجلس الشعب للعمل عبر إعلان رئاسة الجمهورية أنها ستحترم حكم المحكمة الدستورية العليا بإلغاء قرار الرئيس إعادة البرلمان إنما يعكس تغلّب حكمة المنطقية على غريزة الغوغائية. هذا الاستدراك كان جوهرياً إذ أكدت الرئاسة في بيان «بالغ احترامها للدستور والقانون وتقديرها للسلطة القضائية ولقضاة مصر الشرفاء والتزامنا بالأحكام التي يصدرها القضاء»، معربة عن «حرصنا البالغ على إدارة العلاقة بين سلطات الدولة ومنع أي صدام». وبالمقابل، أتى رد المجلس الأعلى للقوات المسلحة على أهمية سيادة القانون والدستور «حفاظاً على مكانة الدولة المصرية واحتراماً لشعبها العظيم» غير تصادمي مع الرئيس الذي تحدى الدولة إنما مع تشديد المحكمة الدستورية العليا على أن «حل مجلس الشعب نهائي وملزم للجميع». هذه المعقولية تشير إلى أن الرشد والنضج تغلبا هذه المرة على نزعات الاستحواذ على مراكز السلطة واحتكارها التي استولت على الإخوان المسلمين والسلفيين في مصر بعد الثورة. وهذا يعكس حكمة الشعب المصري الذي بيّن في الانتخابات الرئاسية الأخيرة أنه سئم ثقافة الاحتكار والسلطوية. كذلك الشعب الليبي يبيّن الآن في انتخاباته أنه ليس قطيع غنم كما شاء نظام معمر القذافي تصويره وعكف على تدجينه لأربعين عاماً. فالانتخابات الجارية مثيرة حقاً لأنها عبارة عن نهوض شعب من تحت ركام الديكتاتورية والغوغائية. وما تدل عليه نتائج الانتخابات – حتى الآن – هو أن لا تلقائية في صعود الأحزاب الإسلامية إلى السلطة في بلاد ما بعد الثورات العربية وأن نزعة الشعوب العربية تميل إلى العيش الطبيعي على رغم سنوات استثمار الأحزاب الإسلامية في تحويل البلاد إلى قاعدة دينية. ثم هناك الشعب السوري الذي فاجأ ويفاجئ بإصراره وعزمه على حقه بالتحرر من الإملاء ومن السلطوية القاطعة. هذا الشعب يقع، جزئياً، ضحية المزايدات والصفقات والديبلوماسية الدولية. ولقد بدأ الامتعاض والاستياء من المبعوث الأممي والعربي كوفي أنان يشق طريقه بشكل جذري إلى الرأي العام. بحق أو بباطل كان هذا الامتعاض، انه يتطلب استدراك كوفي أنان أقله لبعض نواحي تنفيذه مهمته ولأنه قد حان الأوان. في البدء مصر حيث تزامن الإعلان عن «احترام» الرئاسة حكم المحكمة الدستورية العليا بإلغاء قرار الرئيس محمد مرسي إعادة البرلمان، تزامن مع قيام الدكتور مرسي بأول زيارة له كرئيس لجمهورية مصر للاجتماع بخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في جدة. هناك عدة فوائد من هذه الزيارة للبلدين اللذين يشكلان الحجرين الأساسيين للعرب تاريخياً ومستقبلاً. وقرار الرئيس مرسي أن تكون زيارته هذه الأولى له يعكس إدراكه لأهمية تمتين العلاقة الثنائية، استراتيجياً واقتصادياً. قرار الرئيس المصري احترام حكم المحكمة الدستورية العليا أتى بعدما كان ارتكب خطأً كلّفه غالياً كفرد وكشف عن خلل في تنظيم الإخوان المسلمين والسلفيين أثار خوف العالم بمن في ذلك الغرب المندفع إلى احتضان الإسلاميين وانتقاد العسكريين. فموضة التجريح ب «سكاف» – إشارة إلى المجلس العسكري بالأحرف الأولى بالإنكليزية – باتت متفشية في صفوف المؤسسات الفكرية والخبراء والأكاديميين – لا سيما الأميركيين – الذين قرروا أن «العدو» هو العسكر، وأن مصر باتت ملك التنظيمات والأحزاب الإسلامية، وأن قوى الاعتدال أو العلمانية أو الحداثة بات مهمّشة لا قيمة لها. هذه التحليلات والتوجهات الغربية أثرت بالتأكيد في التنظيمات الإسلامية وساهمت في تغذية العجرفة والفوقية والنزعة إلى الاستحواذ على السلطة واحتكارها. إلا أن قيام الرئاسة بمحاولة الانقلاب على الدولة أثار الخوف، وسكب الماء على المندفعين للإسلاميين ومن ضمنهم الذين راهنوا على إقناع الأوروبيين والأميركيين وغيرهم من المستثمرين أن كل شيء على ما يرام في مصر مع حكم التيار الإسلامي. خطأ مرسي انقلب عليه. تفاديه واستدراكه السريع للخطأ ساعده كثيراً، إنما وطأة خطأ كهذا تبقى جرساً يرن الإنذار. ما ساعد الرئيس المصري في تحويل الأنظار والاهتمام إلى النواحي الاستثمارية والاقتصادية والاستراتيجية أتى في زيارته إلى المملكة العربية السعودية التي يفترض أن تكون ركناً رئيسياً في دعم الاقتصاد المصري، ليس فقط بقروض أو معونات وإنما أيضاًَ عبر علاقة مؤسساتية مستدامة وبعيدة المدى، إلى جانب عنصر العمالة المصرية المهمة في المملكة والتي تشكل زاوية مهمة للاقتصاد المصري. أما في ليبيا، فإن الاقتصاد ليس في حاجة إلى معونات خارجية وإنما هو في حاجة إلى المؤسسات وإلى هيئات مراقبة ومحاسبة وشفافية تحارب الفساد والطمع. فهناك في ليبيا صراع على السلطة وكذلك على الموارد الطبيعية في هذا البلد الغني بالنفط والغاز. ليبيا تكاد تكون في غوغائية غريزية لولا وجود كفاءات مدنية فيها بين النساء والرجال تضع العصا في دولاب الذين يريدون الاستئثار بالسلطة أو بالموارد. جدّات ليبيا كما صباياها يتحدّين الجهلاء من الرجال والشباب الذين اعتقدوا أن الثورة تأشيرة دخول لهم إلى نادي احتكار السلطة وإملاء القانون بعشوائية وبمحاسبة الناس خارج القانون. «التحالف الوطني» بقيادة رئيس الحكومة السابق في المجلس الانتقالي الليبي الدكتور محمود جبريل حقق فوزاً ساحقاً في مزيد من الدوائر الانتخابية التي أعلنت نتائجها رسمياً، حتى الآن. هناك رأي بأن هذا التحالف يبدو متجهاً إلى اكتساح قوائم كل الأحزاب الأخرى التي نافسته في انتخابات المؤتمر الوطني العام. إلا أن إجراء الانتخابات بنظامي القائمة الحزبية والفردية قد يحول دون سيطرة التحالف الوطني على الأمور في الهيئة التأسيسية التي ستتولى تعيين الحكومة المقبلة. ما لفت الانتباه هو أنباء تحقيق التحالف الوطني المعروف بتحالف جبريل فوزاً كبيراً على الإسلاميين في شرق ليبيا أيضاً بما في ذلك في مدينة درنة التي توصف بأنها «معقل الجهاديين». ومجرد اندفاع الأكثرية الليبية إلى اختيار رجل بكفاءة وحداثة واعتدال محمود جبريل، يبلّغ رسالة مهمة ليس فقط إلى «الإخوان المسلمين» وإلى الذراع السياسية للجماعة المتمثلة في «حزب العدالة والبناء»، وإنما أيضاً إلى الجهات التي راهنت على فوز الإسلاميين على أساس أن الشعب الليبي «قطيع» بطبيعته أو على التقسيم، لأنها أساساً لا تنظر إلى ليبيا بأنها دولة موحدة. هذه الجهات غربية وشرقية تشمل الولاياتالمتحدةوروسيا. روسيا ما زالت غاضبة من التجربة الليبية التي شكلت لها هزيمة إستراتيجية اعتبرتها إهانة للوطنية والقومية الروسية. غضبها يلامس الانتقام والنقمة ويطبع نفسه واضحاً على سياساتها تجاه كل من ليبيا وسورية على السواء. هذا الإفراط في الانتقام لم يعد يليق بدولة كبرى تحاول تصنيف نفسها عظمى ليس لأنها كانت أثناء الحرب الباردة وعهد القطبين الأميركي والسوفياتي فحسب، وإنما لأنها تجد في الملف السوري فرصة للانتقام مما حدث لها في الملف الليبي. موسكو اليوم تعتمد سياسة «التنقيط» خطوة خطوة تارة مبشرة بتفوق العقلانية والمعقولية والفكر الاستراتيجي البنّاء على سياساتها، وتارة مؤججة انزلاق الوضع السوري إلى الحضيض. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما زال يساوم ويماطل ويصعد في مجلس الأمن ويعيد تفسير ما تم الاتفاق عليه بما يقوّض الثقة بالموقف الروسي ويجعله يبدو متبنّياً لموقف النظام في دمشق ضد المعارضة. هذا الموقف قد يؤذي روسيا على المدى البعيد، إذا استمر. فأسلوب التنقيط خطوة خطوة مكلف بمرافقة مقتل أثر من 17 ألف سوري حتى الآن. حماية المصالح الروسية حق من حقوق موسكو، لا جدال. أما أن تكون المفاوضات على المصالح الروسية على حساب الأرواح في سورية، ففي هذا جدل وجدال. هذا الأسبوع برز تغيير مهم في الموقف الروسي تمثل فيما نقلته وكالة أنباء «انترفاكس» عن مدير هيئة التعاون العسكري فياتشيلاف جيركالن، أن «موسكو لن تسلم مقاتلات أو أي أسلحة جديدة أخرى لسورية، ما دام الوضع هناك باقياً من دون حل»، فيما أكد بوتين معارضة موسكو لأي تدخل مسلح في سورية من دون الموافقة المسبقة لمجلس الأمن. أتى هذا الموقف بعدما كابرت موسكو متمسكة ب «واجب» تنفيذ العقود، ومحاولة ضمان حجب السلاح عن المعارضة أولاً، مشددة على الترابط بين الاثنين في مساواتها الدائمة بين النظام والمعارضة نافية أن هذه ثورة. كوفي أنان أيضاً يجب أن يتنبه إلى خطورة تصنيفه مرادفاً للمواقف الروسية أو السورية. فلقد ثارت موجة انتقاد عارمة له بعد زيارته هذا الأسبوع إلى دمشقوطهران وبغداد بعدما برز كلام عن موافقته على أسلوب الخطوة بخطوة ابتداء بوقف النار في الجبهات التي يعاني منها النظام في دمشق ويتيح له القضاء على هذه البؤر تدريجياً ليقصم ظهر المعارضة المسلحة. طغت انتقادات كثيرة من أعضاء مجلس الأمن لنهج أنان وللنهج الجديد الذي قيل انه اعتمده مع الرئيس السوري بشار الأسد من دون مشاورة أعضاء المجلس. ما خرج به أنان من زيارته الأسد واضح في موافقة الأخير على تسمية مفاوض للحوار وليس على تفويض صلاحيات الرئاسة بالتأكيد. على أي حال، وعلى رغم المآخذ التي لها مبرراتها على كوفي أنان، لا داعي لاعتباره «عدواً» أو «خصماً». إنه وسيط، قد يخطئ أو قد يصيب. نعم، لقد ضخّم أنان مهمته منذ البداية ليكون الوسيط بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن ويتحول إلى راعي علاقات الدول الكبرى عبر الشأن السوري. نعم، لعله اليوم يعتبر نفسه أيضاً مهندس العلاقات الإقليمية، ولذلك قام بزيارة طهران وبغداد بعد زيارته دمشق. ونعم، قد يكون لدى كوفي أنان طموح لعب أدوار رئيسية في رسم معالم النظام الإقليمي الجديد، بل النظام العالمي الجديد. كل هذا لا يبرر تصنيفه عدواً أو خصماً وإنما يجب الاستمرار في التعامل معه مبعوثاً أممياً وعربياً كي يستدرك إذا أخطأ وكي يكون مدعوماً بعقلانية ومعقولية إذا أصاب. فهذه مرحلة تتطلب الرشد والنضج من جميع اللاعبين في المنطقة العربية أجمع وليس فقط في سورية أو ليبيا أو مصر حيث التحدي أوضح مما هو في البقع الأخرى من المنطقة العربية.