عندما أُبعد رفعت الأسد في 1984، سرّب النظام السوري أن السبب هو طائفية نائب الرئيس وإسرافه في القتل والفساد. وبعد تنحية رئيس الوزراء محمود الزعبي، نشرت وسائل الإعلام الرسمية السورية لوائح طويلة بالأملاك والأموال التي استولى عليها استيلاء غير شرعي قبل أن «ينتحر». نائب الرئيس الآخر، عبد الحليم خدام الشريك المؤسس لحكم حافظ الأسد والذي ظل في الدائرة الأقرب للحاكم أكثر من ثلاثين عاماً، لم تنتبه السلطات السورية إلى ما اتهمته به بعد انشقاقه، من «عمالة» لدول الخليج وإلى مستوى إساءاته مع أفراد عائلته إلى الاقتصاد الوطني والنظام، إلا بعدما انشق ورحل إلى باريس. اللواء غازي كنعان الذي أذاق اللبنانيين والفلسطينيين المقيمين في لبنان الذل والمهانة ألواناً تنفيذاً لأوامر الرئيس الخالد، تأخر الكشف عن أبعاد مؤامراته الانقلابية إلى أن «انتحر» (هو الآخر) في مكتبه في وزارة الداخلية التي تولى حقيبتها بعد نجاحاته في لبنان وفي تنظيم «المقاومة» في العراق. انشقاق مناف طلاس، بحسب المتحدثين باسم النظام، «لن يؤثر في شيء». وما السفير السوري في بغداد نواف الفارس غير «ضابط مخابرات فاسد سرق آثار مدينة اللاذقية». اتهامات بالخيانة وإساءة الأمانة وجهتها السلطات السورية إلى نائب وزير النفط السابق عبد حسام الدين والعقيد حسن مرعي الحمادة الذي انشق بطائرته المقاتلة إلى الأردن قبل أسابيع. السؤال المباشر الذي ينهض بعد استعراض عمليات التطهير والإقصاء والانشقاق هذه، هو: ممن يتألف هذا النظام الذي يشغل مناصبه الإدارية والأمنية والسياسية الأكثر حساسية، مجاميع من اللصوص والمرتشين والفاسدين الذين باعوا ضمائرهم بالمال وأثروا من فقر ومعاناة الشعب السوري؟ وإذا كان الذين يتركون مناصبهم، أحياء أو أمواتاً، هم على هذه الشاكلة من السوء، فلا ريب في أن الباقين هم من صنف الملائكة والأولياء الصالحين. هذا ما يريد النظام أن يُقنع الرأي العام به. أو أنهم يعادلون أو يفوقون من أُبعد وغادر بلده ومنصبه ناجياً بحياته، سوءاً وفساداً وإجراماً. وهذا أقرب إلى منطق الأمور. ومنطق الأمور يمكن لمسه في تعالي المبعدين والمنشقين المتأخرين، عن تقديم أي نوع من الاعتذار عما ارتكبوا أثناء توليهم مهماتهم الرسمية. والشهادات والإثباتات أكثر من أن تُحصى حول ما فعله البعض من هؤلاء وبعضها يرقى إلى مستوى الجرائم الموصوفة. بل إن كثراً منهم امتلكوا من الشجاعة ما يكفي لدعوة زملائهم إلى الاقتداء بهم واضعين انفسهم في صف قادة الثورة والثوار. اللقاءات الصحافية مع كبار المنشقين والتي تطرقت إلى ماضيهم، شهدت قليلاً من الاعترافات الخجولة بتجاوز حدود السلطة لكنها اعترافات مغلفة برطانة عن درء الوقوع في شرور أدهى وأمرّ. المهم أن أياً منهم لم يعلن استعداده للوقوف أمام محكمة عادلة وشفافة تحكم بما له وبما عليه. التعالي هذا من موروثات التربية البعثية التي تبيح لحاملها تخيل بقائه على صواب سواء كان بين أحضان النظام أو باحثاً عن دور في المعارضة. غني عن البيان أن هذه الأسطر لا تحيط بظاهرة الانشقاق عن النظام السوري ولا تكفي لفهم الظروف المختلفة التي تجعل كل شخص يأخذ قراره بترك منصبه والالتحاق بالثورة أو العودة، ببساطة، إلى بيته. لكن من المفيد الإشارة إلى أن مصائر المسؤولين السوريين العاملين خصوصاً في أجهزة القمع، ستكون من المواضيع المعقدة في المرحلة التالية لسقوط النظام الحالي. وقد يساهم الانشقاق في تبييض بعض السجلات، لكنه لا يعوض عن عملية مساءلة عادلة ومتزنة.