في يوم زيارة الرئيس المصري محمد مرسي جدة كتب بعض مثقفي مصر في بعض الصحف المصرية مقالات عبروا فيها عن تحفظهم (أو اعتراضهم) عن أن تكون السعودية المحطة الأولى الخارجية لجولات رئيس مصر بعد الثورة. لماذا؟ السعودية بلد عربي، وتحتل مكان القلب من الجزيرة العربية المنشأ الأول للعروبة ومهبط الوحي، إلى جانب اليمن وسلطنة عمان. وهي الدولة العربية، الكبرى الوحيدة في المشرق العربي التي حافظت على تماسكها وعلى استقرارها في مرحلة انتقالية مضطربة على خلفية الربيع العربي. مصر هي الدولة الثانية، ويحسب لها أنها لا تزال محافظة على تماسكها واستقرارها على رغم أنها في القلب من عواصف الربيع العربي. العراق خرج من المعادلة الإقليمية، وكذلك سورية. لم يتبق من المربع العربي التقليدي إلا السعودية ومصر. والسعودية تمثل أكبر اقتصاد في المنطقة، وهي أكبر مستثمر عربي في مصر، وأكبر شريك تجاري لها. وفي السعودية تقطن أكبر جالية مصرية خارج مصر. والإيداعات السعودية في البنك المركزي المصري هي الأكبر عربياً. وحجم زيارات السعوديين والمصريين المتبادلة هي الأكبر على مستوى المنطقة. ويعيش في مصر أكثر من 300 ألف سعودي. كل هذه المؤشرات لا تبرر بالنسبة إلى البعض أن تكون أولى الزيارات الخارجية للرئيس مرسي إلى السعودية. هناك مؤشرات أخرى تجاهلها المعترضون على الزيارة. العالم العربي في الظروف الحالية في حاجة ماسة إلى تفاهم وتنسيق سعودي - مصري لضبط تطورات المنطقة، ولتحقيق شيء من التوازن أمام نمو الدورين التركي والإيراني، فضلاً عن الأميركي. الملف السوري وما يمثله من خطورة يحتاج إلى تفاهم سعودي - مصري بدل تركه لإيران وتركيا، كما ترك العراق من قبل. من ناحية ثانية السعودية في حاجة إلى مصر، كما أن مصر في حاجة إلى السعودية في هذه المرحلة تحديداً. مصر في حاجة إلى استثمارات السعودية وإلى دعمها الاقتصادي المباشر، وإلى الدعم السعودي للملف المصري في منطقة الخليج العربي، وفي البنك الدولي. وفي هذا الدعم السعودي مصالح سعودية أيضاً. الاستثمارات السعودية لها مردود اقتصادي على السعودية كما على مصر. الاستقرار في مصر وعودتها إلى دورها الإقليمي، فيهما مصلحة سعودية. الاستقرار في السعودية أيضاً مصلحة مصرية. حاجة مصر إلى التفاهم السياسي مع السعودية لا تقل أهمية عن الحاجة إلى دعمها الاقتصادي. حالياً السعودية ومصر هما قطب الرحى الذي ينتظر الجميع أن يحفظ المنطقة من الانزلاق إلى الفوضى، ما يعني أن مسؤوليتهما معاً جسيمة لا تتسع لملاحظات أقل من ذلك بكثير. كل ذلك وغيره لم يشفع لدى البعض أن تكون زيارة مرسي الأولى للسعودية. الكاتب المحترم في صحيفة «الشروق» المصرية، فهمي هويدي، ساق أربعة أسباب لتحفظه عن الزيارة ليس منها سبب واحد مقنع. هي أسباب يمكن تفهمها، لكنها ليست ذات صلة، ولا ترقى إلى مستوى اللحظة ومتطلباتها. كما أنها أسباب لا يمكن تلبيتها لأن الوضع العربي لا يسمح بذلك. منها أن بعض القادة الخليجيين احتفظوا بعلاقات خاصة مع حسني مبارك. الرجل حكم مصر 30 سنة. والعلاقات الخاصة كانت سمة للسياسة العربية طوال العقود الماضية. لكن الأهم من ذلك: هل اختلط الشأن السياسي بالشأن الشخصي بعد الثورة؟ دعوة الرئيس مرسي لزيارة السعودية تقول عكس ذلك. السبب الآخر أن أغلب قادة الخليج لم يستوعبوا أن ينتفض الشعب على حاكمه، وهذا صحيح. لكن ثورات الربيع العربي ثورات شعوب، ومن الطبيعي أن أغلب الأنظمة العربية ضدها، أو متحفظة. هل هناك حاجة لذكر أن القيادة السورية لم تستوعب، بل أكثر من ذلك، فهي اعتبرت انتفاضة الشعب جريمة تبرر قتل عشرات الآلاف من السوريين، ولا يزال القتل مستمراً. هل الجزائر مثلاً أو المغرب أو موريتانيا كانت مع الثورة؟ وعلى رغم تحفظها، وجهت السعودية دعوة للرئيس مرسي لزيارتها، ما يعني أنها اعتبرت الثورة شأناً مصرياً داخلياً، ولا بد من قبول الخيار السياسي الذي أراده الشعب المصري، كأمر واقع. في 1952 فعلت السعودية الشيء ذاته. وقبلت قيادة الثورة آنذاك الموقف السعودي. وها هي تقبله الآن. وهي الرؤية السياسية الصحيحة، لأنه لا يمكن اشتراط أن يكون الآخرون على قياسك حتى تقبلهم. بحسب الأسباب التي ساقها هويدي ليس أمام مرسي إلا أن يخصص زيارته الأولى لتونس، أو لبلد غير عربي. وهذا موقف عاطفي، وليس موقفا مبنياً على معطيات ومبررات سياسية. صحيح أنه كان هناك توجس لدى بعض دول الخليج من وصول الإخوان للحكم في مصر. ما هي المشكلة في ذلك؟ الإخوان يصلون للحكم للمرة الأولى في مصر، وهي دولة محورية في المنطقة. التوجس في هذه الحالة أمر طبيعي. هناك ما هو أكثر من التوجس من الإخوان لدى كثيرين في مصر نفسها، قبل أن يكون خارجها. والأهم من التوجس في مثل هذه الحالة هو: كيف ينبغي التعامل مع هذا التوجس، وإلى ماذا يجب أن ينتهي؟ التوقف عن التوجس يعني الريبة، واستباق النتيجة، وهي آفة من آفات الثقافة السياسية العربية. والأغرب في أسباب الأستاذ هويدي هو التعميم الذي فرضه عليه إصراره على عدم تسمية الأشياء بأسمائها. مثل قوله أن «أغلب الدول الخليجية أحجمت عن مساندة مصر في أزمتها الاقتصادية». هل هو متأكد من هذه المعلومة؟ هناك سؤال آخر: لماذا تنتظر مساندة اقتصادية من دول لم ترحب بالثورة، وتتوجس من قيادتها الجديدة؟ أسوق السؤال لا لشيء إلا لفت النظر إلى التناقض الذي يكتنف موقف المعترضين. يبدو أحياناً أن مفهومنا للعروبة والإسلام ملتبس بشكل محزن، وفي لحظات حرجة مثل هذه. وأحد أسباب هذا الالتباس هو الحساسية المتجذرة في علاقات العرب ببعضهم بعضاً. وهو ما عبر عنه هويدي في آخر مقالته بقوله «أما وقد أعلن عن موعد الزيارة فأرجو ... ألا يأتي الرئيس أثناء زيارته على ذكر الوضع الاقتصادي من أي باب...». أقدر جداً حرص الأخ هويدي على مصر، وحدبه على كرامتها، لكن أمنيته هنا ليست حصيفة، ولا عملية. وإذا كانت كرامة مصر ليست جزءاً من كرامة العرب والمسلمين، فأظنها كرامة ناقصة. وزيارة مرسي الأولى ستؤكد ذلك. * كاتب سعودي Kdriyadh@