يتذكّر علي شعيب، صحافي ليبي لدى رويترز في طرابلس منذ 2007، راوياً: كنت في الخامسة عشرة من عمري عندما أجريت آخر انتخابات برلمانية في ليبيا. كانت سني لا تسمح لي بالتصويت لكنني كنت كبيرا بما يكفي لتذكر موجة القومية العربية التي اجتاحت المنطقة آنذاك وألهبت دعوات الاصلاح الاجتماعي والاستقلال عن الغرب. وبمتابعتي للحملات الانتخابية المتحمسة التي هيمنت على موجات الأثير وطغت على الصحف المستقلة الكثيرة وقتها فإنني لم أكن أعرف أن أول فرصة ستتاح لي للتصويت قد لا تأتي قبل 47 عاما أخرى وبالتحديد في السابع من يوليو تموز من عام 2012. وفي عام 1964، أي قبل خمس سنوات من مجيء الزعيم الليبي السابق معمر القذافي إلى السلطة ومنعه إجراء الانتخابات، طالب المرشحون بأن تتبع ليبيا سياسة نفطية مستقلة. وشعر الكثيرون أن الغرب استغل مواردنا في خمسينات (القرن العشرين) وراقت الفكرة للكثيرين. واستخدمت الحملات الانتخابية لغة تجذب الناخبين الغاضبين من وجود قواعد عسكرية بريطانية وأميركية في الأراضي الليبية. وامتلأت الميادين العامة بلافتات جذابة حملت شعارات من قبيل "نفطنا يجب أن يبقى نفطنا" و"القواعد العسكرية الأجنبية تقوض سيادتنا." وأذكر أن الصحف المستقلة كانت تنتقد الحكومة آنذاك وأدانت الفساد الذي استشرى في ليبيا مع بدء تدفق عائدات النفط، لكن مثل هذه الانتقادات كانت لتودي بصاحبها في السجن، أثناء فترة حكم القذافي. لكن ليبيا كانت ملكية في ذلك الوقت. وبدافع الخوف من الاستياء المتزايد عملت الحكومة على تهميش أساتذة مشهورين وصحافيين كانوا يخوضون الانتخابات. ومع هبوب رياح القومية من مصر التي أطاح ضباط في الجيش الملك فاروق في 1952، زاد خوف المسؤولين في ليبيا. وجاءت نتيجة الانتخابات في ليبيا مفاجئة وزادت من شكوك في وقوع تزوير. لكن، وعلى رغم جهود السلطات، دخلت مجموعة من السياسيين المعارضين، الذين يتمتعون بالجرأة، البرلمان واستخدموا مواقعهم الجديدة للضغط على الحكومة. فحلّ الملك إدريس البرلمان المنتخب في غضون أشهر، ما أثار استيائي كثيراً، حينئذ لأن الاشخاص الذين استبعدوا كانوا على درجة عالية من التعليم وكانوا جادين في إصلاح البلاد. وأجريت انتخابات أخرى في 1965 وشابتها اتهامات بالتزوير ووصل القذافي بعد ذلك بأربع سنوات إلى الحكم وبالتحديد في عام 1969. رأى القذافي في الديموقراطية انغماساً برجوازياً ومنع إجراء انتخابات منتظمة قبل أن أبلغ السن الذي يمكنني من التصويت. واضطررت إلى انتظار 1972 كي تسنح لي فرصة جديدة للتصويت، وكانت المناسبة هذه المرة انتخاب 20 ممثلاً للانضمام إلى مجلس اتحاد الجمهوريات العربية، وهي محاولة قام بها القذافي لتوحيد ليبيا ومصر وسورية. وكنت مساعدا لأحد المرشحين لكنني فوتت فرصتي للتصويت لأنني كنت مشغولا للغاية بالعمل يوم الانتخابات. لم يقدر لتجربة القومية العربية أن تستمر، ففي غضون 5 سنوات انهار الاتحاد وذهبت معه البقايا الأخيرة لحرية الاختيار السياسي في ليبيا. وبعد أيام من انتخابات 1972 التي امتلأت بعدها شوارع وميادين طرابلس بصور المرشحين، انتشر عمال النظافة لازالة الصور عن الجدران. ومنذ ذلك الوقت، لم ترفع سوى صور القذافي في الأماكن العامة في ليبيا كما طبعت صورة الزعيم الليبي على النقود من فئة الدينار. وصدرت في ليبيا بعد ذلك بسنوات عملة نقدية جديدة من فئة 50 دينارا وحملت صورة القذافي أيضا. ومثلما كانت صور الزعيم الراحل كيم جونغ ايل أو أبنائه في كل مكان في كوريا الشمالية الشيوعية، بدا لي أننا كنا محاطين أيضا في ليبيا بصورة رجل واحد. وهيمنت الصور الضخمة على الميادين العامة واللافتات الاعلانية في ليبيا حتى هبت رياح "الربيع العربي" على شمال افريقيا. فبعد 42 عاماً من حكم، رسمت أهواء القذافي معالمه وشهد تغيرات متقلبة في سياسة ليبيا، جاءت الثورة أخيرا وجاءت معها فرصة أمام الليبيين لاختيار من يمثلهم سياسياً مجددا. وهكذا، وقبيل إغلاق باب التسجيل في أيار/مايو، توجهت إلى مكتب للانتخابات في مسقط رأسي ببلدة مسلاته، للحصول على استمارة تسمح لي بالتصويت للمرة الأولى في حياتي، وقج بلغتُ 62 عاماً. ونظرت إلى استمارتي الانتخابية الجديدة وحفظت رقمي الانتخابي عن ظهر قلب، لانه سيمكنني من الانضمام إلى 2.8 مليون ليبي آخرين يحق لهم التصويت، لاختيار أعضاء الجمعية الوطنية التي ستبني ليبيا جديدة من حطام المؤسسات التي فككها القذافي. وبينما أنا في طريقي إلى مركز الاقتراع يوم السبت (الماضي)، كان لاختفاء صور القذافي الأثر الأكبر في نفسي. ففي الأماكن التي كانت ترفع فيها صور القذافي أصبحت ترفع صور أناس يتنافسون لجذب انتباه الليبيين وجابت سيارات الشوارع تحمل صورهم أيضا. وذكرني الموقف بأن بلادي لم يعد يحكمها فرد ولم يعد يسمح بأن ترفع صور شخص واحد فضلا عن استحواذه على كل السلطات في البلاد. وهكذا قمت، للمرة الأولى، وبعد أن شهدت ثلاثة انتخابات بصفتي مراقب، بالتصويت لمرشح اخترته ولمرشح أعتقد أنه سيخدم ليبيا ولن يحكمها أو ينهب ثرواتها. لكن صوتي لم يذهب فقط إلى مرشح واحد بل كان لنظام سياسي جديد ولليبيا جديدة، أتمنى أن تعيد إليّ صوتي بعد أكثر من 40 سنة، لم استطع خلالها التعبير عن رأيي.