منذ رحل الأستاذ غسان تويني وهاجسي الكتابة عنه، وخوفي التقصير في الكلام عن جميله عليّ في الكثير مما لا يمكنني نسيانه. قد يكون ما فعله بالنسبة إليّ عادياً لكبير مثله في التعامل مع المحيطين به، خصوصاً أبناء جريدته الغالية على قلبه الذين لم يكن يوقفه شيء في دعم تقدمهم وتحسين مستوياتهم الثقافية والإنسانية. فهو لم يتورع يوماً عن التعريف بأحد منهم، في مناسبة اجتماعية أو ثقافية، بالقول: «زميلي أو زميلتي...»، ولا يضيره أن يكبر الآخر قربه في الفكر والقامة، ويتكاثر الكتّاب ويشتهرون من حوله. لكأن فرحته تكمن في عدد الأقلام التي ترفع راية الفكر الحر، الرأي الآخر، الجدل الديموقراطي، تصارع الأفكار، وصولاً إلى شرارة عبقرية يهنئ صاحبها عليها... ذلك أن عِقَد النقص أو الغرور التي تكاد تطبع الحقبة الصحافية الحاضرة في بلادنا، وتأخذ الصحافة الحقيقية إلى الأفول، لم تكن موجودة في ناموسه النيّر، بل لم يكن يؤخره شيء عن إبقاء النبض القائم في الكلمة... في الكلمات، حيّاً وخافقاً إلى حيث لا موت، بل انبعاث في وجود أبدي أزلي آمن به حتى العظم. دخلتُ في حرب السنتين 1975 – 1976 المعترك الحقيقي للصحافة اليومية حيث كان يُعتقد أن مرحلة عسيرة تمر في لبنان ولا بد أن تزول مع انتخاب الرئيس الجديد في ذلك الحين الياس سركيس. وكانت المواضيع تنهال علينا من الطبقة التاسعة حيث مكتب الأستاذ غسان، لكن من خلال إدارة التحرير التي كان يحترم دورها في التعامل مع المحررين ولا يتجاوزها. كان يهمه أن يعرف الخلفيات الاجتماعية والإنسانية والطائفية والسياسية للجماعات المسلحة التي نزلت إلى الشوارع وتقاتلت في ما بينها... ونحن المحررين والمحررات من الجيل الجديد في ذلك الحين، نلبيه بتحقيقات مهمة تنشرها الجريدة في وسع صفحاتها. وكان لهذه التحقيقات صداها الكبير على القراء والباحثين، الأمر الذي كان يُفرح قلب الأستاذ غسان كثيراً. فلا شيء في الصحافة يعادل لديه تحقيقاً ميدانياً واقعياً يغادر فيه الصحافيون مكاتبهم إلى الناس الحقيقيين في كل حي أو قرية... ينقلون حقائق من أفواه أصحابها، ويروون بإحساس ما يحصل على الأرض، «بلا تنظير أو تشبيح»! لم تكن علاقتنا مباشرة مع الأستاذ غسان في ذلك الزمن الصعب، لكنه كان يعرفنا من خلال كتاباتنا وفي اللقاءات التي تجمعنا مصادفةً في المصعد، أو في مكتب مدير التحرير فرنسوا عقل، ومن ثم في بيته القديم في الأشرفية بعدما اتخذته «النهار» مكتباً فرعياً نظراً إلى تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد. وسافر الأستاذ غسان إلى الولاياتالمتحدة مندوباً للبنان في الأممالمتحدة طوال مدة عهد الرئيس سركيس من 1976 - 1982، وتابعنا أعمالنا الصحافية الميدانية في ظروف شديدة الصعوبة، وأخطرها تفجيرات سيارات مفخخة هنا وهناك... فسافرتُ أواخر عام 1980 إلى الولاياتالمتحدة للالتحاق بإخوتي الذين سبقوني، وما لبث أن التحقَ بنا والدانا في معاملات هجرة مثل لبنانيين كثر. وفي أثناء وجودي في جامعة الولاية في بورتلاند – أوريغون، وانقطاع الاتصالات مع لبنان وبجريدة «النهار»، واستمرار الأحداث المأسوية المقلقة في البلاد، اتصلتُ بالأستاذ غسان في مقر بعثة لبنان في الأممالمتحدة أسأله عن أحوال بلدنا فإذا به يُسَر باتصالي ويشجعني على المجيء إلى نيويورك قائلاً: «الصحافي يللي بيجي على أميركا ما بيروح عالضواحي»، ودعاني للعمل الصحافي إلى جانبه مع تقديم كل التسهيلات التي أحتاج إليها. وعندما أبلغتُه بأنني أتابع دراستي في جامعة بورتلاند، اقترَحَ أن أكمل الفصل، ثم أنتقل إلى نيويورك حيث أستطيع أن أكمل المواد المطلوبة في إحدى جامعات نيويورك، ثم أجمع ال credits وأعيد نقلها إلى بورتلاند عندما يحين موعد مناقشتي للresearch paper المطلوبة للتخرج بشهادة «الماسترز» في العلوم السياسية. كم فرحتُ بعرض الأستاذ غسان الذي عاملني كأب وهو يقترح المخارج لي من أجل المجيء إلى نيويورك والإفادة الثقافية والصحافية والسياسية من هذه المدينة العظيمة، لكأنها عاصمة الكرة الأرضية. عاملني كأب لمجرد أنني ابنة «النهار» التي لا يفرّط بها في أية ظروف، يستثمر في قدراتها وفي تطوير هذه القدرات، مثل غيرها كثير، من أجل بقاء «النهار» واستمرارها وتطورها. وهكذا كان، وانفتحت أمامي آفاق واسعة في نيويورك، في الأممالمتحدة وفي جامعة City University of New York، وفي مختلف النشاطات الثقافية والسياسية في هذه المدينة الأسطورة، كل ذلك بفضل الأستاذ غسان ورعايته وسخائه والتسهيلات التي قدّمها لي لإرسال تحقيقات إلى «النهار» من هناك. ولعل هذه العناية الأبوية، التي كانت تميز صاحب الجريدة، ورئيس تحريرها ميشال أبو جودة، ومدير تحريرها فرنسوا عقل، هي التي أعادتني، وحدي ومن دون أهلي وإخوتي الذين استوطنوا أميركا منذ ذلك الوقت، إلى بيروت وإلى «النهار» بالذات، لأن العمل في هذه الجريدة المميزة كان يشكل متعة وخبرة ضمن عائلة مهنية لا يضاهيها شيء ولا يمكن أن تتكرر مع تغلب المصالح السياسية والشخصية على العمل الصحافي وإفسادها إياه. وفي حقبة لاحقة، وفي غياب إرادي للأستاذ غسان عن إدارة جريدته، صُرفتُ من «النهار» مطلع عام 2001 «لأسباب العجز المالي» لكنني تمكنتُ عبر القضاء من إثبات أن الصرف كان «تعسفياً». أدرك الأستاذ متأخراً ما حدث، ولم تزعجه إقامتي دعوى أمام القضاء على جريدته، ولم يتوقف عندها، بل كان أول الواصلين إلى حفل توقيع كتابي «صحافية في ثياب الميدان» في معرض الكتاب العربي بمجمع «البيال» في كانون الأول (ديسمبر) 2004، وبقي لبعض الوقت يحتفي مع المهنئين بصدور هذا الكتاب الذي يروي حكايات العمل الصحافي في جريدة «النهار» أثناء الحرب. وفي مرحلة لاحقة أيضاً، وفي أثناء تعزيتي إياه في «أربعين» فقدان ابنه الشهيد جبران تويني، في منزله ببيت مري مطلع عام 2006، نقلتُ إليه وزوجي الخوري إميل الذي كان يخدم في معلّقة زحلة، تعزية أهالي زحلة في ذلك الأحد الذي خُصِّصت فيه القداديس لروح الشهيد جبران، وقدّمنا له القربان الزحلاوي المميز، وكعادته فرح به وراح يوزعه على الحاضرين، وكان كلام عن ماضيَّ في «النهار»، واحتمالات العودة. وهذا ما حصل، وعدتُ مجدداً إلى «النهار» بدعم من الأستاذ غسان الذي كان حاضراً في اليوم الأول من تلك العودة في مكتب المدير فرنسوا عقل... أقول كل ذلك، لأشير إلى أي رجل ديموقراطي كبير كان، لا يتوقف عند الصغائر. أكرمني في كل المرات التي تعامل فيها معي، وأعطاني كل الفرص المتاحة أمامه تقديراً لعملي المهني الذي انتهى في «النهار» مجدداً مع مغادرته إدارة جريدته نهائياً عام 2009. وقد زرته في بيته مع صدور «الطبعة الثانية» من كتابي «صحافية بثياب الميدان» عام 2010، وكان على كرسيه النقال قليل الكلام، لكنه بدا مسروراً بكتابي وراضياً... ويكفيني رضا الأهل لأنه من رضا الله.