آخر أمراء الصحافة اللبنانية. أيوب العصر. «الأستاذ». أخي الكبير. صديقي. بطل الحريات المدنية. ليس الأمر أن غسان تويني مات فأذكر حسناته. حسناته تضيق عنها عجالة صحافية، وإن كانت له سلبيات (وأي الرجال المهذب)، فأنا لا أعرفها، أو لم أرها على امتداد علاقة مستمرة بدأت قرب نهاية الستينات. كنت في السنوات الأخيرة وقد غلبه المرض اتصل بقرينته أختنا شادية الخازن لأسألها عن صحته وأطمئن عليه، وكنت أرجوها إذا استعاد نشاطه يوماً أن تتصل بي لأجلس معه، ولو مرة أخيرة، إلا أنه رحل عنا من دون أن تتحقق أمنيتي. كنا صحافيين صغاراً ننظر الى غسان تويني كمثل يحتذى وكل منا يأمل أن يسير في خطاه. وجاء يوم كنت أحلم بمثله، فقد اتصلت بي الأخت العزيزة سامية الشامي، سكرتيرته الخاصة وحاضنة أسراره، وقالت لي إن «الأستاذ» يريد أن يراني. كنت رئيس تحرير ال «ديلي ستار» وأيضاً أعمل في وكالة رويترز رئيس نوبة التحرير محاولاً أن أختار بينهما، ومكتبي في بناية أونيون، قرب حديقة الصنائع، على بعد بضع مئة متر من مقر «النهار» السابق قبالة وزارة الإعلام. وجدت ان «الأستاذ» يريد إصدار نشرة أسبوعية بالإنكليزية لتحليل الأخبار السياسية، وهو ما فعلنا. وأدار النشرة بقدرة كبيرة الزميل رياض نجيب الريس، فكان المسؤول الأول عنها. كان الاتفاق أن آتيه ظهراً، وما أذكر من تلك الأيام انه كان يتناول حبوب «ميلوكس» إذا لم تخنّي الذاكرة، وهي لعلاج القرحة. وكنت أحياناً أتحرج من إزعاجه، فقد كان عمله الصحافي جهداً مرهقاً كافياً، إلا أنه قاد حملة إقناع أعضاء البرلمان بانتخاب سليمان فرنجية رئيساً، فكنت أرى النواب يدخلون مكتبه ويخرجون، وفاز سليمان فرنجية بالرئاسة بفارق صوت واحد، وكانت هناك اعتراضات على الفوز، فالقانون ينص على نصف عدد النواب زائداً صوتاً. وحصل فرنجية على 50 صوتاً مقابل 49 صوتاً لمنافسه الياس سركيس وسمعت من قال ان النصف 49.5 ويفترض للفوز ان يحصل الفائز على 50.5. إلا أنني أعتقد ان الرئيس فؤاد شهاب نصح رئيس مجلس النواب صبري حمادة أن يعلن فوز سليمان فرنجية ويطوي الجدل. فجأة أصبح الصحافي غسان جبران تويني نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً لثلاث وزارات، بينها التعليم التي سببت له مشاكل كبيرة. اقترحت عليه أن نؤخر إصدار النشرة بالإنكليزية لأن هناك ما هو أهم منها، إلا أنه رفض وقال «كل شيء بحسابه». ولم تمض أسابيع حتى بدأ يشكو من سليمان فرنجية وأسلوبه في إدارة الرئاسة. وقال لي مرة «غلطنا»، وأن سليمان فرنجية لا يصلح أن يكون مختاراً في ضيعة (قرية)، وأعترف اليوم بأنني اعتقدت ان غسان تويني «يتبهور» علي، فكيف يمكن ان يشكو وقد كان صحافياً يواجه ألف تحدٍ، وأصبح ركناً أساسياً في حكومة البلد. اللبنانيون من جيلي يعرفون ما حدث بعد ذلك، فقد استقال غسان تويني من الحكومة بعد مئة يوم، وتعرضت «النهار» لمقاطعة شرسة، بل حرب، فكانت تصدر احياناً وليس فيها إعلان مبوب واحد، بسبب تهديد «الزغرتاوية» المعلنين، مع انها كانت الأعلى دخلاً إعلانياً بين صحف لبنان كلها. كان غسّان تويني محارباً في سبيل الحق، وسُجن غير مرة، وعندما حوّلت الحكومة الصحف الى المحاكمة بسبب نشرنا تصريحاً لرئيس الوزراء رشيد الصلح سنة 1975 قاد رئيس تحرير «النهار» حملة مقاطعة المحاكم احتجاجاً على محاولة منعنا نشر كلام رئيس السلطة التنفيذية وحُكم علينا جميعاً بالسجن ولم تنفذ الأحكام، وأقام السيد موسى الصدر مأدبة غداء تكريماً لنا وانتصاراً لحرية الصحافة. غسان تويني فقد طفلته نايلة ثم زوجته الأولى الشاعرة ناديا حمادة، وفقد ابنه الثاني مكرم في حادث سير، ثم ابنه البكر جبران الذي اغتيل ولم يعاقب القتلة بعد. وفي حين أن أيوب خرافة توراتية، فإن غسان كان واحداً منا نفرح لفرحه (متى فرح؟) ونتألم لألمه. كان لقبه المفضّل «السفير»، ولعل أسعد أيامه كانت عندما عمل سفيراً لبلاده لدى الأممالمتحدة. وكانت افضل جلساتي معه عندما ترافقني أختنا الصغيرة حياة مروة، فقد كان يحب اولاد صديقه الراحل كامل مروة كأولاده. هو أخيراً ارتاح، بعد رحلة الآلام والآمال والنكبات والانتصارات، وترك لنا جميعاً مثلاً يُحتذى. [email protected]