ربّما كانت المنطقة العربيّة، بفعل ثوراتها، تمتحن فكرة جديدة تختبئ تحت سطح الأحداث: فإذا خرجنا من التبسيط الذي يُدرج الأفكار في خانتي «رجعيّ» و»تقدّميّ»، معدماً تاريخ الأفكار نفسها، والتاريخ الأعرض للمجتمعات، وجدنا أنفسنا أمام احتمال، مجرّد احتمال، تظهّره الثورات العربيّة اليوم. والاحتمال هذا مفاده أنّ الإسلام السياسيّ قد يكون أكثر قابليّة من الإيديولوجيّات الأخرى للتعايش مع الديموقراطيّة. هذا لا يلغي أنّ تعايشاً كهذا بين الإسلام السياسيّ والديموقراطيّة مرشّح لأن يكون صعباً، إلاّ أنّ افتراضنا ينبثق من حقيقة بسيطة هي التالية: إنّ الإسلام السياسيّ كإيديولوجيا قبل - حداثيّة ليس مرشّحاً لمنافسة الديموقراطيّة بالمعنى الذي تنافسها فيه الإيديولوجيّات التي تشاطر الديموقراطيّة حداثيّتها. بمعنى آخر، تجد الديموقراطيّة ما ينازعها في القوميّة والفاشيّة والاشتراكيّة والعلمانيّة أكثر ممّا تجده في الإسلام السياسيّ. ذاك أنّ هذه القوى كلّها تلعب، ولو ضدّيّاً، على أرض واحدة، كما تتشارك في درجة أو أخرى في بناء منظومة فكريّة ومعرفيّة متجانسة يستحيل الوقوع عليها في المعتقدات ما قبل الحداثيّة. وهذا بالطبع لا يعني أنّ الإسلام السياسيّ ديموقراطيّ، لكنّه يعني أنّه مشدود إلى مسائل تغلب عليها الشكلانيّة القديمة، بحيث لا يتقاسمها مع الديموقراطيّة غير المعنيّة بها إلاّ لماماً. فهو إذا كان يتقاطع ضدّيّاً مع الديموقراطيّة، وهذا مؤكّد («القرآن دستورنا»، بحسب «الإخوان»)، إلاّ أنّ التقاطع هذا أصغر كثيراً من اللامبالاة المتبادلة: ذاك أنّ معظم هموم الديموقراطيّة ليست هموم الإسلام السياسيّ، والعكس بالعكس. لا بل إذا دقّقنا في إشكالات العلاقة بين الإسلام السياسيّ وقوى الحداثة الأخرى، وجدنا أنّها تقيم في المكان الذي لم تختره قوى الحداثة المذكورة: فعداء الإسلاميّين للشيوعيّة، مثلاً، ليس ناجماً عن موقف الشيوعيّة من الملكيّة الخاصّة (وهذا هو الأساس) بقدر ما هو ناجم عن موقفها من الإيمان والإلحاد. وبمعنى ما يمكن القول إنّ بعض الأخطاء الهائلة التي ارتكبها «الإخوان» في مصر كانت نتيجة قلّة الخبرة بعالم السياسة الحديثة، حتّى أنّ «البراغماتيّة» التي يوصفون بها أحياناً، وتُظهرهم في مظهر الانتهازيّ، كثيراً ما تكون تعبيراً عن جهل وقلّة تماسك حيال مسائل لم يفكّروها. وهذا ما يتّخذ عند السلفيّين شكلاً كاريكاتوريّاً فجّاً. فإذا كانت إيديولوجيّات الحداثة الأخرى (القوميّة، الشيوعيّة، الفاشيّة...) تصادم الديموقراطيّة رأسيّاً، فالإسلام السياسيّ تربطه بها علاقة انقطاع وغربة، وهذا ما يوضحه ضعف الموقف من الاقتصاد مثلاً، والتخبّط والهشاشة حيال مسائل الإبداع والمرأة والأقليّات حتّى في لحظات التصدّي لها. تتغيّر هذه المعادلة حين يصار إلى أدلجة الإسلام، على النحو الذي فعله الإيرانيّون بعد ثورة الخميني، أو فعله قبلهم سيّد قطب، «لينين الإخوان». فحين يغدو الدين حزباً وعقيدة متماسكين، أي حين يُحدّث بالمعنى الأداتيّ للكلمة، يصير مشرعاً على التوتاليتاريّة، مناهضاً للديموقراطيّة، مالكاً لمواقف أكثر تفصيليّة من شؤون عالمنا المعاصر. هذا ما قد يفسّر أوجهاً من الحقيقتين الكبريين في التاريخ العربيّ الحديث: - أنّ القوميّين والاشتراكيّين والعلمانيّين وأنصاف العلمانيّين كانوا هم، وليس الإسلاميّين، من أقاموا أنظمة عطّلت الحياة السياسيّة السابقة عليها، ثمّ تحوّلت صروحاً ديكتاتوريّة وتوتاليتاريّة، و- أنّ الإسلام السياسيّ، من خلال تنظيمه الأوّل والأكبر، جماعة «الإخوان المسلمين»، إنّما وقعوا ضحيّة أولى للديموقراطيّة التي لا يقولون بها. وهذا معطوفاً على التقاطع العريض بين الثوريّات الجديدة الراهنة، التي خلت من «التنظيم» والتماسك الإيديولوجيّ، وبين حركات الإسلام السياسيّ، وعلى بعض أوجه التجربة التركيّة في التعايش مع الديموقراطيّة (على رغم أنّ من السابق لأوانه محاكمتها والحكم عليها) يؤلّف فرضيّة يفترض بها أن تحضّ على النقاش. فإذا كان للفرضيّة هذه نصيب من الصحّة، أمكن أن نتوقّع واحداً من اثنين: إمّا أن يتغيّر الإسلاميّون بما ينهي صلة الانقطاع التي تربطهم بالديموقراطيّة، أو أن تطويهم الديموقراطيّة تلك.