«سأدفع والله سأدفع...»، تلك كانت آخر الكلمات التي نطقها أحمد قبل ان يتلقى وابلاً من الرصاص من ثلاث بنادق لا تبتعد فوهة الواحدة منها أكثر من نصف متر عن رأسه. يومها ودّع الصيدلاني زوجته الشابة ورسم قبلة على جبين ابنته الوحيدة زهور (6 سنوات) واستقل سيارته متوجهاً إلى صيدليته، من دون أن يعلم أنها القبلة الأخيرة وأن حلمه في رؤية ابنه القادم رامي، الذي انتظر بنفاد صبر موعد ولادته، لن يتحقق أبداً. بوجه بدا عليه الشحوب وهي تستذكر يوم مقتل زوجها في اواسط 2010، تقول أم رامي الذي ولد يتيماً: «لقد امتنع زوجي عن دفع أتاوة ستة أشهر مقدماً، فكان ترمّلي وتيتم الطفلين ثمناً لذلك». كان الصيدلاني يتصور أن جملة «الدفع أو الموت» للترهيب فقط، لذلك أصر على أن يدفع شهرياً، متذرعاً بانخفاض موارد الصيدلية وحاجته إلى مصاريف لتغطية تكاليف عملية ولادة الصبيّ، الذي كان يحلم به منذ خمس سنوات، لكنه نسي ان عملية قتل «سهلة» من هذا النوع هي من ضمن «إستراتيجية عمل التنظيمات المسلحة من اجل الحصول على تمويل اكبر»، كما يشير خبير في شؤون الجماعات المسلحة. تضيف الزوجة بعد ان تبلع ريقها: «مع الأسف، أدركنا ذلك متأخرين». بدأت قصة جمع الاتاوات وقتل من يتخلف عن دفعها، بعد عام 2004، إذ تقوم الجماعات المسلحة، وأبرزها تلك التابعة لتنظيم «القاعدة»، بتحصيل مبالغ مالية محددة من القطاع الخاص ودوائر الدولة وأصحاب المهن المختلفة من مدينة الموصل بالتحديد، بهدف تمويل نشاطاتهم المسلحة. فمنذ أواخر تلك السنة، عندما سيطرت الجماعات المسلحة وفي مقدمها تلك المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، على الموصل، لا تزال المدينة تقبع تحت ترهيب هذا التنظيم الذي يأمر وينهي ويتصرف، في كثير من الاحيان، كسلطة رسمية، يفرض اتاوات على مفاصل الحياة كافة. دولة الظل يطلق الكثيرون في الموصل على هذا التنظيم «دولة الظل» التي تطالب المواطن بالتزامات تتجاوز كثيراً التزامه تجاه الدولة، حتى بات دفع الإتاوة أو «التبرع»، كما يحب أعضاء التنظيم تسميتها، من طبيعة الأمور في حياة المواطن الموصلي. حجم «التبرعات» التي يحصل عليها «دولة العراق الإسلامية» في مدينة كالموصل يناهز «خمسة ملايين دولار (أميركي) شهرياً» وفق زهير الجلبي، مستشار وزير المصالحة الوطنية، ورئيس لجنة الاعمار في حملة أم الربيعين، الذي أكد ان «جميع مفاصل العمل العام والخاص تدفع إتاوة لتنظيم القاعدة» بأشكال مختلفة، إما مبالغ شهرية مقطوعة أو نسبة مئوية من قيمة المبلغ الكلي المستحصل. فيما يؤكد أبو عبادة (45 سنة) المنشق عن «دولة العراق الإسلامية» أن حجم التمويل يتجاوز هذا الرقم بكثير، بخاصة بعد أن اتبع التنظيم في العام 2007 استراتيجية جديدة في الموصل، اعتبر بموجبها هذه المدينة «قاعدة ومركز تمويل أول لدولة العراق الإسلامية»، مؤكداً أن كل قطاعات العمل العام والخاص شُملت بهذه الاستراتيجية التي فرضت بالقوة، أما المخالف «فيقتل من دون هوادة». يعمل «دولة العراق الإسلامية» وفق مؤسسات متكاملة تشمل معظم مجالات الحياة، وتفرض نفسها كسلطة دولة مقابل «ضعف أداء سلطة الدولة الرسمية»، وفق سليم الحسيني، الخبير في شؤون الجماعات المسلحة والذي أكد أن دولة العراق الإسلامية تقوم ببعض التصرفات بهدف إشعار المواطن بقوة وشرعية التنظيم، مثل «الدفع بموجب وصولات واستقطاع ضرائب بنسب ثابتة ومحددة يتم نشرها في وقت سابق». يقول احد عمال البناء إن المقاول الذي يعمل معه دفع مبلغ ثلاثة ملايين دينار عراقي (حوالى 2500 دولار أميركي) ل «دولة العراق الإسلامية» بعد اعتراضهم على اتمام البناء قبل الدفع، وأن الشخص الذي تسلم المبلغ حرر وصل قبض به حتى لا يتم التعرض له من جانب مجموعة مسلحة أخرى. ويتكون تنظيم «دولة العراق الإسلامية»، الذي اعلن عن تشكيله في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2006، من نحو سبعة تنظيمات مسلحة أبرزها ما يسمى «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» كقائد لهذه المجموعات والتي تتركز نشاطاتها في محافظات وسط وشمال وغربي العراق. وإلى جانب التنظيم أعلاه، تنشط في الموصل مجموعات عدة مسلحة اخرى مثل «أنصار السنّة» ذي الطابع السلفي المتشدد. و«جماعة أنصار الإسلام» وهو تنظيم تأسس في محافظة السليمانية ونقل نشاطاته بعد عام 2003 إلى عدد من المحافظات الشمالية من بينها الموصل، مركزاً على استهداف المقرات والشخصيات السياسية الكردية، إضافة الى تنظيمات «حزب العودة» وهي تشكيلات من حزب البعث المنحل وتنظيم «الجماعة الكسنزانية» ذو الطابع الديني «الصوفي» والذي يضم مجموعة من ضباط الجيش العراقي وعناصر النظام السابقين، هذا فضلاً عن جماعات وعصابات مسلحة أخرى تنشط بين الحين والآخر. الدفع أو القتل اتبع تنظيم دولة العراق الإسلامية استراتيجية إلزام واحدة تضمن إجبار جميع المستهدفين بالدفع من دون استثناء، وتضع حياة الفرد وعائلته على المحك عند امتناعه. وتتلخص هذه الإستراتيجية وفق أبو عبادة، المنشق عن القاعدة، ب «الدفع أو التكفير والقتل»، فعندما يشعر المواطن ان رفضه «يعني الموت، لن يتردد في الالتزام»، بخاصة إذا ما رافقت هذه الاستراتيجية تطبيقات عملية في بعض الحالات وتنفيذ أحكام القتل. فالصيدلاني أحمد على سبيل المثال، لم يرفض دفع مبلغ «200 دولار شهرياً كتبرع من الصيدلية لدعم المقاومة كما يدفع الجميع» توضح زوجته ام رامي، لكن قتله جاء بسبب «عدم الالتزام»، أي لأنه اعترض على دفع المبلغ عن ستة أشهر مقدماً. في مواجهة هذه الاستراتيجيات القاسية للتنظيمات المسلحة، تقف الأجهزة الأمنية بكل تشكيلاتها «عاجزة»، عن وضع حد نهائي لها كما يشير عبدالرحيم الشمري رئيس لجنة الأمن في مجلس محافظة نينوى. يضع الشمري «ضعف المعلومات الاستخباراتية الدقيقة» في مقدم أسباب عجز الدولة، خصوصاً ان الموصل تفتقر الى «أجهزة استخبارات متمرسة»، إضافة إلى «انعدام التنسيق بين القوات الأمنية والحكومة المحلية من جهة وبين الحكومة المحلية والحكومة المركزية من جهة أخرى»، وما ينجم عنه بالتالي من «وضع أمني هش». يضاف إلى ما تقدم، خوف المواطن من التبليغ بسبب انعدام الثقة بالأجهزة الأمنية نتيجة الخروقات والخوف من تسرب معلومات عن من يقوم بالتبليغ والتنكيل به وعائلته. وهذا ما حدث لمنعم العبيدي، تاجر الأدوات الاحتياطية الذي تعرض إلى التهديد بالقتل وتفجير منزله في نهاية العام 2009 «بعد 24 ساعة من تبليغه الأجهزة الأمنية بعملية الابتزاز التي يتعرض لها»، كما أوضح الشمري الذي استدرك قائلاً إن «ظاهرة اختراق الأجهزة الأمنية بدأت بالانحسار». دوائر الدولة وفق مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة المحلية لمحافظة نينوى، تعتبر دوائر الدولة الرسمية في تلك المحافظة «البنك الذي لا ينفذ لتمويل نشاطات دولة العراق الإسلامية» إذ لم يقتصر دفع الأتاوة على المواطنين والقطاع الخاص، بل تدفع دوائر الدولة بدورها «النسبة الأكبر من الاموال» التي تصل الى الجماعات المسلحة، وعلى رأسها تنظيم «القاعدة». ويؤكد المنشق عن «القاعدة»، أبو عبادة، أن كل دوائر الدولة من دون استثناء «تدفع في شكل مباشر أو غير مباشر». فالدوائر المنتجة مثل معمل الاسمنت ومديرية المنتجات النفطية «تدفع إما مبالغ نقدية أو قطوعات من الإنتاج»، أما الدوائر غير المنتجة، فتدفع في شكل غير مباشر وفي طرق مختلفة. في هذا الصدد، يكشف العنصر السابق ان «بعض الجهات مثل جامعة الموصل تخصص كل مقاولات الإعمار لعدد من المقاولين المرتبطين بالتنظيم». بينما تدفع بعض الدوائر الأخرى التمويل بطرق «مبتكرة» بعيدة من المقاولات كما يقول أحد موظفي الدولة في الموصل: «منذ أكثر من سنة يتم اقتطاع مبلغ 2000 دينار (أقل من دولارين) من راتبي شهرياً وعندما سألت المحاسب لماذا هذا الاقتطاع، قال انه يشمل جميع الموظفين من دون استثناء. وبعد تكرار السؤال عليه، قال «هذا المبلغ يذهب لإخواننا المجاهدين لحمايتنا». ويقول موظف رفض نشر اسمه: «يوجد موظف في دائرتنا ونحن جميعاً نعلم انه من عناصر القاعدة ويتصرف مثلما يريد ومن دون ان يتمكن احد من منعه حتى مدير الدائرة، بل ان صلاحياته تتجاوز مدير الدائرة ذاته». وأضاف: «نحن لا نفكر بالتبليغ عنه لأنه بإشارة واحدة ينهي حياتنا، ولماذا نبلغ والحكومة والاجهزة الامنية تعلم بما يجري وربما يكونون شركائهم... لماذا نتطوع بالتضحية بحياتنا». ما يؤكد معلومات الموظفين أعلاه، رواها لنا أحد المقاولين، التقى شخصياً ب «الحجي» قبل أشهر معدودة. يكشف المقاول الذي رسا عليه أحد مشاريع مد أبراج كهرباء في إحدى المناطق الساخنة في الموصل في الآونة الاخيرة ان الاهالي نصحوه بزيارة «الحجي» وهو «والي دولة العراق الاسلامية في المنطقة التي يقع فيها المشروع». يوضح المقاول: «سألني الحجي ماذا تريد؟، فأخبرته عن المشروع وعندما بدأت الحديث عن التفاصيل، قال الحجي لحظة، وطلب من أحد مساعديه ان يحضر له حقيبته السوداء وأخرج منها رزمة من الأوراق وأشهر ورقة وقال «هل هذا هو كتاب إحالة المشروع عليك؟»، أجبته مذهولاً نعم وسألني عن قيمة العقد وتفاصيل العمل فأجبت وفي منتصف حديثي شهر ورقة ثانية وقال هل هذه هي تفاصيل المناقصة التي قدمتها للدائرة؟ ما زاد ذهولي مجيباً ب «نعم»، وبعد ثوان أشهر ورقة اخرى وسأل: «هل هذا هو العقد الذي وقعته مع الدائرة؟، وأخيراً قال: «نوافق ان تعمل بشرط ان تدفع النسبة المحددة». يؤكد المقاول أن جميع الاوراق التي كانت في حوزة «الحجي» هي نسخ من الأوراق الرسمية الموجودة في ملف المشروع في دائرة الكهرباء، والمشروع يتم انجازه الآن من دون أية عراقيل، بعدما وافق المقاول على دفع الاتاوة من دون ان يكشف حجمها. ويبرر المقاول عدم التبليغ عن «الحجي» بوجود «عدد من الأشخاص مثله، وحال إبلاغي سيتم إنهاء المشروع بالكامل وقتلي وقتل عائلتي». ليس «الحجي» موظف دولة، لكنّ «هناك موظفين تابعين له داخل كل الدوائر الحكومية»، يشير مسؤول أمني كبير، موضحاً أن «في كل دائرة هناك ممثل واحد على الاقل لدولة العراق الإسلامية». ويكشف المسؤول أن «هؤلاء الموظفين معينون من قبل المحافظة وهم ردفاء لمدراء الدوائر، يقومون بتسهيل اعمال «دولة العراق الإسلامية» مثل إرساء المناقصات ومنح المقاولات»، مؤكداً أن اي مدير دائرة يمتنع عن الدفع او التعاون، يكون «مصيره القتل». هذا ما حدث مثلاً مع مدير المنتجات النفطية محمد زيباري الذي تعرض إلى ثلاث محاولات اغتيال فاشلة في العام 2010 بسبب «امتناعه عن الدفع والتعاون مع دولة العراق الإسلامية»، فيما توفي لاحقاً على الفراش. وكذلك الحال مع مدير أحد المعامل الحكومية الكبيرة عندما امتنع عن الدفع، فزرع التنظيم عبوة ناسفة صغيرة تحت مقعد سيارته، انفجرت عند باب داره من دون خسائر جسدية، كان الغرض منها تحذيره، مما دفعه إلى «التعاون والدفع وفق ما يريد التنظيم». في لقاء خاص مع محافظ نينوى، أقرّ اثيل النجيفي بوجود ظاهرة الاتاوات التي تنتزع من المواطنين والدوائر الحكومية والقطاع الخاص، «لكن هناك مبالغة ولا تصل إلى حجم هذه المبالغ الكبيرة». ويوضح المحافظ أنه في السابق كانت الأتاوات تفرض على دوائر وجهات رسمية خاصة مثل قطاع النفط والمقاولين وكان حجمها «أكبر»، ولكن المحافظة اتخذت «بعض الإجراءات» للحد من هذه الحالة. ووفق معلومات المحافظ، فإن الأتاوة المفروضة على المقاولين وأصحاب المهن توقفت «باستثناء بعض المقاولين ممن لديهم مشاكل مع هذه الجماعات». جرى هذا من خلال تعاون المواطنين «على رغم ان الكثير منهم لا يزال يخاف من الخروقات في الاجهزة الامنية». وبخصوص وجود موظفين في دوائر الدولة تابعين للقاعدة، أشار المحافظ أثيل النجيفي، إلى أن شبهات دارت حول طبيعة عمل بعض الموظفين قبل عام 2008، إذ كانوا متنفذين في الدوائر على رغم عدم تمتعهم بمركز وظيفي. وقال النجيفي: «نحن بدورنا قمنا بنقل هؤلاء الى مناطق بعيدة ونائية لنتمكن من تفتيت هذه الشبكة والآن أصبحت دوائر الدولة على الأغلب في مأمن من هذه الحالة»، ويزيد: «لقد انحسر تمويل القاعدة الى درجة كبيرة». عبد الرحيم الشمري، رئيس لجنة الأمن في مجلس المحافظة قال «ربما يكون هناك موظفون من داخل الدائرة ينتمون الى دولة العراق الإسلامية»، إلا أنه نفى ان تكون لهؤلاء الموظفين علاقة بالمحافظ أو المحافظة. لم تخلُ استراتيجية دولة العراق الإسلامية من خطة خاصة لقطاع المقاولات، فبعد أن كان المقاولون مستهدفين في شكل رئيس كونهم «يساهمون في تنفيذ خطة المحتل وتجميل صورته» وفق ابو عبادة، أصبح هذا القطاع في ما بعد من «أهم مصادر تمويل القاعدة». أكد المصدر الامني ظهور مجموعة من المقاولين المعروفين ب «انتمائهم وتبعيتهم للتنظيم واحتكارهم لمعظم المقاولات الكبيرة في المدينة». هؤلاء المقاولون الذين لهم سوابق في أعمال عنف كما تؤكد سجلات الأجهزة الامنية، أصبحوا يستحوذون على معظم عقود المقاولات من خلال «تسهيلات تقدم لهم من بعض المتمكنين في الحكومة المحلية». في هذا الصدد، يشير المصدر الامني إلى أن الموظفين الموالين ل «القاعدة» في الدوائر الرسمية يسهلون لهؤلاء المقاولين استلام هذه المقاولات، فيما تقوم مجموعات مسلحة أخرى بتهديد المقاولين الآخرين بهدف إبعادهم عن المناقصات. أحد المقاولين الذين التقتهم «الحياة»، اضطر إلى ترك مدينة الموصل قبل عام، وإكمال أعماله من بعيد، بعد ان تعرض ولده إلى الاختطاف لعدم استجابته للاتصال الهاتفي الذي طلب منه الانسحاب من مناقصة مقاولة كبيرة وإصراره على استلامها. المقاول قال ان «شخصاً من داخل الدائرة سرب لهم معلومات عن المناقصة التي قدمتها وبالتفصيل» والتي كانت اقل من الأسعار التي قدمها مقاول التنظيم، ما دفعهم إلى «خطف ولدي ذي العشر سنوات وطلب فدية مئة الف دولار والانسحاب من المناقصة». وهكذا انسحب المقاول وترك المقاولة وأرباحها الكبيرة ل «التنظيم»، بعد ان دفع المبلغ المطلوب منه مقابل حياة ابنه. لكن في أحيان أخرى يترك المسلحون المقاولات لأشخاص لا ينتمون اليهم، بشرط الحصول على نسبة تتراوح ما بين 10 إلى 20 في المئة من القيمة الإجمالية للمقاولة، على ما أشار الجلبي، مستشار وزير شؤون المصالحة. ويؤكد المصدر الامني المعلومات أعلاه مشيراً إلى أن المقاولين «يتعرضون للابتزاز ودفع الاتاوة من دون استثناء» وفق معلومات استخباراتية تصل للأجهزة الأمنية، لكن عند التحقيق معهم «ينكرون ذلك خوفاً على حياتهم وأعمالهم»، خصوصاً انه بعد عام 2003 والى الآن «تم قتل الكثير منهم، أو أفراد مقربين لهم». حميد أحمد، أحد المقاولين الذين تركوا مهنة المقاولات وهاجر إلى إقليم كردستان بعد ان اختطفت الجماعات المسلحة ابنه (14 سنة) في طريق المدرسة، وقتلته في ما بعد لامتناع أحمد عن دفع الأتاوة. أحمد الذي يتحسر على فقدان ابنه، يقول «طالبوني بمبلغ 80 ألف دولار على اعتبار أن المشروع سيحقق أرباح 400 ألف دولار». يضيف المقاول: «أرباحي الحقيقية كانت 100 ألف دولار فقط، حيث كنت المقاول الثالث إلى أن رسا عليّ المشروع، لكنهم لم يقتنعوا بذلك». مهما كانت الاسباب وراء استمرار ظاهرة دفع الأتاوات وعدم القدرة على وضع حد لها، تبقى مدينة الموصل مصدر تمويل كبيراً لتنظيم «القاعدة» والتنظيمات المسلحة الاخرى التي لا تزال تشكل مصدر تهديد حقيقياً للعراق وتجربته حديثة النشأة. الشركات الخاصة والتجار وفق استراتيجية دولة العراق الإسلامية، يسمح لجميع الشركات الكبيرة والتجار بالعمل في الموصل بعد أن يتم الاتفاق سلفاً على دفع مبالغ محددة لغرض «الحماية والسماح لهم بالعمل». فأي شركة تبادر للعمل في الموصل يجري الاتصال بها وإبلاغها بالأتاوة المتوجب دفعها، مرفقة بالتهديدات والتحذيرات من أنها ستكون هدفاً «لمجاهدي التنظيم» إذا لم تدفع، وفق أبو عبادة الذي أكد أن «مقدار المبلغ أو النسبة المطلوبة من الشركة، لا يحدد جزافاً، إنما يتم إقراره بعد دراسة مستفيضة لنوع العمل والأرباح المتوقعة». وأكد المصدر الأمني أن كل الشركات تدفع من دون استثناء، وفي مقدمها شركات الاتصال. شركة «آسياسيل» للاتصالات «واحدة من الشركات التي تدفع في شكل مستمر»، بخاصة بعد أن حاولت في عام 2008 «الامتناع عن الدفع فكان رد (تنظيم) دولة العراق الإسلامية تفجير العشرات من ابراجها خلال اشهر معدودة» وفق أبو عبادة الذي أكد أن «آسياسيل» «عاودت الدفع بمبالغ هائلة ومنذ ذلك التاريخ لم يتم التعرض لأي موظف من الشركة ولا حتى أبراجها». وعلى رغم ان المدير التنفيذي للشركة، ديار أحمد، أكد عملية حرق أبراجها، إلا أنه أشار إلى أن السبب كان تدهور الوضع الامني في المدينة بشكل عام، ولا علاقة له بالاتاوات. في الوقت نفسه، لم يستبعد أحمد أن تكون هناك أتاوة تعطى من دون علم الشركة، اذ أن لهم أكثر من ستة مقاولين في الموصل يتعاملون مع أكثر من ألف نقطة بيع، وهؤلاء منتشرون في المدينة وضواحيها، هذا إضافة إلى مئات الموظفين «ربما يتعرض أي واحد من هؤلاء إلى ابتزاز ويجبر على دفع أتاوة لحماية نفسه وعائلته، ولكن السؤال هل هذا يعني ان آسياسيل هي التي دفعت؟، بالتأكيد لا». وفق المنطق ذاته تم العمل مع جميع مجالات التجارة في الموصل، حيث يؤكد أبو عبادة أن استراتيجية التعامل مع التجار كان لها «خصوصية»، وتشمل كل تفاصيل العمل التجاري من خلفيات التاجر وصولاً إلى نوع البضاعة المستوردة ومصدرها وتنافسها مع بضائع أخرى يتم استيرادها من قبل تجار تابعين للتنظيم. في هذا الصدد يشير المنشق عن «القاعدة» ان التنظيم «منع استيراد البضائع الإيرانية عام 2009 الى الموصل»، وكان السبب ان معظم التجار التابعين له «يستوردون من سورية وكانت أسعار البضائع الإيرانية تنافس بضاعتهم». وأوضح أحد تجار الأجهزة المنزلية أنه فشل في توزيع مبردات هوائية قام باستيرادها من إيران لكون «دولة العراق الإسلامية منعت المحلات من بيع أو عرض أي بضاعة إيرانية، ولذلك لم أجد من يشتري مني بضاعتي». وفيما تكبد هذا التاجر خسائر كبيرة، ظل سوق الموصل «محتكراً من قبل تجار آخرين تابعين للتنظيم. ووفق الجلبي، مستشار وزارة المصالحة، فإن جميع التجار وأصحاب المحلات التجارية في الموصل «يدفعون الأتاوة من دون تردد»، لأن الشاحنات التي تقل بضائعهم ممكن أن «تحرق بأي لحظة». ويؤكد المصدر الأمني أن جميع الشاحنات وقطاع النقل كاملاً يخضعون لابتزاز دولة العراق الإسلامية لسهولة استهدافهم على الطرق الخارجية ومداخل المدينة. أحد سائقي الشاحنات الذي بدأ العمل في عام 2010 وما زال يعمل في المجال نفسه، يروي قصته في أول رحلة له من الأنبار إلى قضاء سنجار مروراً بالموصل، حين تم اعتراضه من قبل مجموعة مسلحة في الطريق الخارجي بين الموصل ومدينة سنجار: «اول ما سألوني عنه هو سبب عدم توقفي لدفع ضريبة المرور في نقطة الموصل». وبعد معاناة طويلة لإقناعهم بأنه جديد في المهنة ولا يعرف هذه التفاصيل، وبعد مناقشة الموضوع مع صاحب البضاعة المنقولة هاتفياً، دفع مبلغ «700 دولار أميركي»، إضافة إلى «200 دولار أخرى كغرامة لعدم التوقف في نقطة الموصل، ثم حرروا لي وصل قبض بالمبلغ». يضيف السائق «لو لم أدفع، لكنت في عداد الموتى وكانت الشاحنة ضمن المفقودات». نماذج من نسب الأتاوات والرسوم كأمثلة عن حجم المبالغ المستحصلة، بين أصحاب محال تجارية التقتهم «الحياة» تبين أنهم يدفعون شهرياً على النحو الآتي: محال الموبايل من 100 إلى 200 دولار، الأدوات الاحتياطية من 500 إلى 750 دولاراً، ورشات تصليح السيارات من 100 إلى 300 دولار، محال المواد الغذائية من 200 إلى 500 دولار. أما في قطاع الصحة، فيدفع الصيادلة من 200 إلى 500 دولار، فيما يتضاعف المبلغ بالنسبة للأطباء ليصل إلى 1500 دولار. وكذلك هي الحال مع متعهدي النقل الخاص. الأمر تجاوز ذلك، فمن يبيع أو يشتري قطعة أرض أو بيتاً، يدفع مبلغاً محدداً لتلك الجماعات بحسب سعر البيع، كما يؤكد زهير الجلبي، مستشار وزير المصالحة الوطنية ورئيس لجنة إعمار حملة أم الربيعين في الموصل. وأضاف الجلبي أن «الجميع يعلم بهذه الأحداث، حتى الحكومة، لكن لا أحد يستطيع أن يوقفها بخاصة أن المواطن لا يتقدم بالشكوى خوفاً على حياته». وأشار مصدر أمني رفيع المستوى في محافظة نينوى إلى أن كل الدوائر الحكومية تدفع «أتاوة لدولة العراق الإسلامية»، مثل المنتوجات النفطية ومعامل الإسمنت ودائرة الماء والكهرباء والرعاية الاجتماعية والبلدية ودائرة التسجيل العقاري التي كانت من أكبر مصادر التمويل حيث قامت ببيع عدد كبير من أراضي الدولة لصالح القاعدة». هذا بالإضافة إلى كل المولدات الكهربائية التي تزود المنازل بالكهرباء وكل محطات الوقود وشركات الاتصالات ... وأي شركة تعترض «يتم استهداف أبراجها». المطاحن تدفع أتاوة مفروضة عليها تبلغ 10 دولارات عن كل طن ينتج من المطحنة. وبحسب ناشط مدني قام بجمع معلومات حول الموضوع، فإن أصحاب المطاحن يحاولون التهرب من الدفع من خلال التلاعب بقوائم الإنتاج لتقليل مقدار الأتاوة، لكن دون جدوى، «فالقاعدة لديها مصادر في وزارة التجارة تزودهم بعدد الأطنان المستلمة من الحبوب في كل مطحنة وعدد أطنان الإنتاج». ___________ * أنجز هذا التحقيق بالتعاون مع شبكة "نيريج للصحافة الاستقصائية"