اهتمام الدولة الليبية بالقطاع السياحي معدوم، لكن هذا لا يمنع الليبيين من الحرص على التقاط الصور في الأماكن الأثرية الكثيرة في بلدهم، ونشرها عبر حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، والتباهي بالاستناد إلى حجر ما، يعود لسنوات ما قبل الميلاد. والواقع أن ليبيا غنية بالآثار، بل يُقال إنها خزانة التاريخ، لما فيها من مدن أثرية لا تزال شبه كاملة من فترات الحضارتين الإغريقية والرومانية، منها قورينا (شحات)، وسوسة (أبولونيا)، وتوكرة، ولبتوس ماغنا (لبدة الكبرى)، وصبراتة، وطلميثة، فضلاً عن مواقع للحضارة الجرمانية في الجنوب الغربي، مثل مدينة جرمة، والحضارة الأمازيغية في جبل نفوسة، وأخرى تعود للفترة الإسلامية في أماكن متفرقة. لكن الانفلات الأمني في البلاد يثير القلق، مما قد تتعرّض له الثروات الأثرية من نهب أو إتلاف. ويجزم عدد من الباحثين الليبيين في مجال الآثار، بأن الدولة هي المسؤولة عن تنامي ظاهرة بيع وتهريب الآثار، لسنّها قوانين متساهلة، إذ لا تزيد عقوبة منتهك الآثار في القانون عن الحبس سنة واحدة، وغرامة مالية لا تتجاوز 20 ألف دينار ليبي (الدولار الأميركي يساوي قرابة 1.2 دينار). ويرى آخرون أن القوانين جيدة، مقرّين بحاجتها للتعديل، ومطالبين منظمات المجتمع المدني والجمعيات المختصة بالآثار بالضغط على الجهات التشريعية لتحقيق التعديل المطلوب. وأعدّ الباحث في مجال الآثار خالد المسلاتي مقترحاً في هذا الميدان، يضمن تعويضاً مجزياً لأصحاب الأملاك التي توجد فيها مواقع أثرية، ومكافأة مجزية لكل من يبلّغ عن أي قطعة أو موقع أثري، مع تشديد العقوبات بالحبس والغرامة المالية لأيّ اعتداء على المواقع الأثرية. ويؤيد الباحث أحمد المحجوب، رأي المسلاتي لجهة ضرورة تشديد العقوبة على المعتدين على الآثار، لافتاً إلى «ازدياد عمليات السرقة والطمس والاعتداء»، مشيراً إلى موافقة لجنة إعداد الدستور على إدراج مواد تلزم حماية الموروث الثقافي، ويضيف: «نأمل من الحكومة والبرلمان المقبلين دعم حماية الآثار، وتعزيز مساهمة مؤسسات المجتمع المدني والإعلام للقيام بدورهما في التوعية»، معتبراً أن «كثرة المواقع تصعب على مصلحة الآثار حمايتها، لامتدادها في كل ليبيا». مصلحة الآثار ويرى رئيس قسم الآثار الكلاسيكية في كلية الآثار والسياحة بجامعة المرقب الليبية، القريبة من مدينة لبدة الأثرية، مصطفى الحوات، أن مصلحة الآثار الليبية «ليست لديها الإمكانات لتقف في وجه المعتدين، سواء في شحات (إحدى أكبر المدن الأثرية في شرق ليبيا)، أو في مناطق الجنوب، وخصوصاً جبال أكاكوس، التي توجد في كهوفها نقوش تعود إلى حقبة ما قبل التاريخ». ويوضح الحوات: «هاتان المنطقتان اعتُدي على آثارهما بكل ما تحمله كلمة اعتداء من معنى»، لافتاً إلى «تسوية بعض الأراضي التابعة لمدينة شحات الأثرية بالجرافات بهدف البناء عليها». ويأسف الحوات على جبال أكاكوس قائلاً: «بعض معدومي الضمير شوهوا النقوش والرسومات الصخرية التي تعود إلى حقبة ما قبل الميلاد، بكتابات تذكارية، وطلاء بعضها وطمسه». ويشيد بالجهود الذاتية والتطوعية للحفاظ على الموروث الثقافي، لافتاً إلى الجهد الإعلامي والتوعوي الذي يبذله عدد من الأساتذة في هذا المجال. وفي المقابل، يطمئن الباحث في مجال الآثار رمضان الشيباني، عبر صفحته على «فيسبوك»، إلى أن حال آثار هضبة مساك وما حولها (الأكاكوس) في صحراء جنوب ليبيا، والمسجلة في لائحة التراث العالمي كمنطقة محمية بموجب قوانين اليونسكو، «ليست كما يهوّل به بعضهم» ، مؤكداً نقلاً عن تقرير لمراقبة آثار فزان في الجنوب، أن «الوضع في المحمية عادي، ولا توجد أعمال تخريب جديدة بعد تلك التي شهدته أواخر 2013، عندما نقش مواطن اسمه على منحوتة لوحيد القرن، يرجع تاريخها إلى حوالي 12 عاماً قبل الميلاد». وكانت اليونسكو عبّرت عن قلقها في شأن آثار أكاكوس، لدى اجتماعها في الدوحة في حزيران (يونيو) الماضي. جهود مدنية ويلفت المحجوب إلى أن هيئة مراقبة أثار لبدة تعاونت مع سكان المنطقة لتأسيس سرية خاصة مسلحة لحماية الآثار في آب (أغسطس) 2011، تشكلت من بعض موظفي المراقبة وسكان المنطقة، مؤكداً أنها لا تزال تحمي المدينة الأثرية، حتى اليوم. ويقول: «نطمح في المستقبل أن يكونوا نواة لشرطة حماية التراث، وأن يلقى الموروث الثقافي جانباً من اهتمام الدولة». ويشدد المحجوب على أن «الانفلات الأمني وغياب المؤسسات الأمنية، ساهما في إطلاق يد العابثين في كثير من المواقع الأثرية» ، مشيراً إلى سرقة الكنز القوريني المودع في أحد مصارف بنغازي في أيار (مايو) 2011، والذي يحتوي نحو 8 آلاف قطعة، بين عملات وحلي وتماثيل برونزية. ويحمل الباحث، مصلحة الآثار مسؤولية عدم اتخاذها إجراءات وقائية لحماية هذا الكنز القوريني. وعلى خط مواز، أسس نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي مجموعات للتوعية بأهمية الآثار وضرورة حمايتها، وللتنبيه إلى المخاطر التي تهددها. ومن بين هذه المجموعات على «فيسبوك» مجموعة «الآثار الليبية المنهوبة» و«ملتقى باحثي الآثار» و«أكاكوس». يُذكر أن من بين حالات التعدي، هدم مسجد عمر بن العاص (غرب ليبيا) في أيلول (سبتمبر) 2013، والذي يعود لأكثر من 1500 عام، وقد بناه ابن العاص في فتوحات شمال أفريقيا. كما تعرضت زاوية عبدالسلام الأسمر في مدينة زليتن (غرب ليبيا) في آب (أغسطس) 2012، للهدم وحرق مكتبتها التي تضم وثائق ومخطوطات نادرة في الفقه المالكلي وتاريخ التصوف، فيما سُجّلت حالات سرقة كثيرة لتماثيل وقطع أثرية من بعض المواقع.