لا يكمن إبهار الصورة التلفزيونية في الإضاءة والألوان والديكورات وبذخ الاستوديوات، بل ان هذا الإبهار نلحظه في برامج وأفلام وثائقية يجرى تصويرها في أمكنة قصية؛ بعيدة آلاف الكيلومترات عن تلك الاستوديوات الهادئة، المرتبة بعناية. هنا، في هذه الأفلام الوثائقية، التي تعرض في شكل خاص على قناني «ناشيونال جيوغرافيك»، و «الجزيرة الوثائقية»، تغدو الكاميرا أداة سحرية في يد مصوّر مغامر ينتقل من البراري الشاسعة الى أعماق البحار، ومن خضرة الغابات القاتمة الى الفضاء الرحب اللانهائي. من الصحارى القاحلة؛ المفتوحة على آفاق غير مرئية، إلى جليد القطبين الشمالي والجنوبي... جغرافية الكرة الأرضية بكل تضاريسها ومناخاتها هي مسرح هذه الأفلام التي تحتوي على مشاهد ولقطات تحبس الأنفاس، وتثير المخيلة. ترصد الكاميرا في هذه الأفلام لحظات يصعب تصديقها، لحظة انقضاض دب قطبي على فريسته في تلك السهوب الغارقة تحت ركام الثلوج، ولحظة تأهب تمساح للفوز بصيد يبقيه على قيد الحياة، ولحظة استعداد ثعبان يتربص بفريسة غافلة... لا يمكننا، بأي حال، تعداد مثل هذه اللقطات التي تمتحن صبر المصور وفريق الفيلم، وهم ينتظرون أياماً وأسابيع الى أن تحين ساعة الصفر المنتظرة؛ ساعة الفوز بلقطة ثمينة تُستَخلص من بين آلاف اللقطات التي لا قيمة لها في العرف التلفزيوني. وثمة، دائماً، أسئلة ترافق المُشاهد وهو يتابع مثل هذه الأفلام، إذ كيف تسنى للمصور ان يضع الكاميرا في هذه «الزاوية القاتلة» حيث الضواري والنمور والأسود؟ وكيف دخل الى هذا الوكر وذاك الجحر؟ وكيف استطاع أن يهبط الى أعماق البحار والمحيطات لاصطياد هذا المشهد البديع... علماً أن أي خطأ بسيط قد ينذر بعواقب وخيمة على المصورين وفريق العمل، ذلك ان إنجاز مثل هذه الأفلام ينطوي على مخاطر لا يقدم عليها إلا اولئك المغرمون بأسرار الطبيعة وألغازها العصية على الكشف. واللافت بعد كل هذا، ان المحطات التي تعرض مثل هذه الأفلام والبرامج لا تحظى برواج أو شهرة مثيلاتها من القنوات الإخبارية مثلاً، أو تلك المتخصصة في هذا المجال أو ذاك، ولعل الدليل على ذلك هو غياب الاعلانات التجارية في هذه المحطات، وغياب الصخب الذي يطبع شقيقاتها. في هذه المحطات يجد المشاهد نفسه على موعد متواصل مع اكتشافات ومعلومات وأسرار لا تنتهي، فضلاً عن أن الجانب البصري يحظى بعناية خاصة في هذه الأفلام، فليس من المنطقي ان يبذل صانعو هذه الأفلام كل هذه الجهود المضنية كي يعودوا بحصيلة عادية.