عبر مظهره الذي تتصدره اللحية ويغلِّفه الجلباب، أوحى النائب السلفي علي ونيس للبسطاء بأنه الأكثر قرباً إلى أخلاقيات السلف الصالح، ما دعا الناس إلى انتخابه نائباً عنهم، حارساً لفضائلهم، قبل أن يعود فيغدر بهم، ويتنكر لعهدهم عبر فعلته المرذولة مع فتاة مراهقة، كاشفاً عن حقيقة مرة. فهو الأكثر بعداً ليس فقط عن أخلاقيات السلف، وسجايا المؤمنين، بل أيضاً عن تقاليدنا المحتشمة، نحن المسلمين العاديين، عرباً أو مصريين... تمثل هذه الواقعة نموذجاً رائقاً يصلح للتعميم على قضايا كثيرة تخص فهم الإسلام لدى هذا التيار وما يقاربه من تيارات الإسلام السياسي، من قبيل علاقة الدين بالدولة، والدين بالمجتمع، والظاهر بالباطن، حيث يسود الفهم الشكلي/ النصي للإيمان والأخلاق، والذي أظنه إحدى علامات انحطاطنا، وربما أحد دوافع تخلف مجتمعاتنا العربية المعاصرة، التي تبدو فقيرة أخلاقياً، على رغم استنادها إلى دينين عظيمين هما المسيحية والإسلام، يشكلان قاعدة الاعتقاد لدى الغالبية الساحقة من مواطنيها. يرجع هذا الهزال الأخلاقي إلى أن الثقافة العربية أهدرت مثالها الديني أو ضلته منذ زمن طويل، تحت ضغوط الهزيمة الحضارية والنفسية. كما عجزت، في الوقت ذاته، عن صنع مثال حديث قادر على الحلول محله والاضطلاع بدوره، قادر على حفزها وإلهامها من جديد. بل إنها كثيراً ما أنفقت جهدها في هجاء هذا البديل الحديث/ الوضعي المستند إلى مفهومي العقل والواجب، والذي صاغته الثقافة الغربية، باعتباره قريناً شيطانياً للدنيوية والمادية والعلمانية. يتنكر هذا الفهم وما يتلوه من هجاء الأخلاق المدنية لحقيقة أن أبرز ملامح ارتقاء الدين في التاريخ يتعلق بمدى واقعيته وتعبيره عن الحس الإنساني المشترك، بارتكازه على الفطرة، واستناده إلى العقل الإنسانيين، ما يجعل الأخلاق الدينية الصحيحة قرينة للأخلاق الإنسانية الحقة، لا تشذ عنها جوهرياً. والعكس صحيح أيضاً، فالقبيح هو القبيح، والباطل هو الباطل، والظلم هو الظلم، والجرم هو الجرم في شتى الأنساق الأخلاقية الفلسفية والشرائع الدينية، وما هو قائم بينها من تباين لا يعد جوهرياً مطلقاً، بل نسبياً يتعلق بتفاصيل المكان والزمان، وغالباً ما ينصرف إلى طريقة التعاطي مع الموقف اللاأخلاقي، أي كيفية قمعه ثم عقابه، وليس إلى تعريفه أو تحديده. يكاد أن يتفق جل الأنساق الأخلاقية على أن أبرز دلائل الأخلاق يتمثل في اتساق سلوك الإنسان مع صوت ضميره، الهامس داخله، فإذا أجاد الإنسان الإصغاء إلى ذلك الصوت كان أخلاقياً ولو أخطأ السلوك، أما إذا تنكر له، فالأحرى أن يكون منافقاً، وإن جاء سلوكه فعالاً أو مفيداً من وجهة النظر العملية. وفي الحقيقة لا يقف الدين التوحيدي بشرائعه الثلاث في مواجهة هذا الفهم، بل يدعمه بتقديم أفضل مبرراته عبر قصة الخلق الدينية التي تشي بأن الإنسان، كل إنسان، يحمل بين ضلوعه ملاكاً وشيطاناً يتصارعان دوماً على دفقات روحه وحركة سيره، فلم يرده الله عز وجل ملاكاً خالصاً يدور حول العرش، معصوماً من الخطأ، مقهوراً على الطاعة. ولم يرده شيطاناً خالصاً، متمرداً أصلياً على أمره، مقصياً تماماً عن ملكوته، بل أراده كائناً عاقلاً حراً، تدفعه حريته، لو أراد، إلى طريق الله بالسمو عن الرذائل، والتطلع إلى السماء مركز الشعور بالقدسية، ووجهة الحضرة الإلهية. كما تدفعه، لو أراد، إلى طريق الشيطان، بالانغماس في الرذائل، والالتصاق بالملذات الدنيوية الزائلة. غير أن هذا التعويل على الضمير وحده يمثل واحدة من أروع نقاط القوة، وأبرز نقاط الضعف، في الدين الذي يصوغ أخلاقيات ومُثلاً تجد مصدر إلزامها في قلب المؤمن، وليس في قواعد قانونية ترعاها سلطات قاهرة تفرض على الإنسان الالتزام بها. ولعل هذا هو الفارق الكبير بين عالم الألوهية المقدس الذي يرعاه الضمير، وعالم السياسة المدنس الذي تحميه القوة.