يستحق ساسة لبنان بجدارة انتزاع الصدارة لدى موسوعة «غينيس» إذ يسجّلون الأرقام القياسية في اشتقاق مفردات النقد الجارح والشتائم التي تستبيح كل أعراف العمل السياسي، من أجل إذلال الخصم، وتسجيل النقاط أمام الرأي العام. ولا حرج طبعاً في تبديل التحالفات والقناعات كلما هبّت رياحهم شرقاً أو غرباً. أدرك الساسة الذين يتراشقون بكل صنوف الذم والتقبيح، أن فريقاً واسعاً من اللبنانيين، بالأحرى الغالبية الكاسحة التي تكتوي بحرص السادة الكبار على راحتهم، ومستواهم المعيشي ودخلهم الفردي الذي يكاد أن يبزّ دخل السويسري، وعلى كهربائهم التي تشعّ استقراراً رغم قطع الطرق وتقطيع أوصال البلد السياحي... أن هؤلاء جميعاً ملّوا انتظار ارتدادات ربيع العرب، وأخبار الملف النووي الإيراني، والصراع «النووي» المتجدد على توقيت نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات. انهمكوا، لذلك، بقضايا «هامشية» لا تأخذ في الاعتبار موقع لبنان على خريطة النظام العالمي الذي يتشكل مجدداً، بدءاً من مضيق هرمز الى قناة السويس، والحدود بين السودانَيْن، وصولاً الى الصحراء الغربية. ولم يكترث إعلامهم كذلك، بأن اصابع الاتهام الكبرى ستكون موجهة إليه وليس إلى الإنكليز، في التقاعس عن ضبط غضب السياسيين، نواباً ووزراء، وتطويق هيجانهم الذي لم يترك سلاحاً إلا واستخدمه في التمثيل بالذمم السياسية والمالية! ألم يبرئ الرئيس السابق للحكومة عمر كرامي الإنكليز من توتير طرابلس- في شارع سورية- ويستغرب لماذا يشعل الإعلاميون الأجواء كلما هدّأها؟ ولكن، هل حرّضت الصحافة والتلفزيون النواب والوزراء- أو بعضهم تفادياً للمبالغات- على تبادل الاتهامات بخطف الدولة أو «ترويضها» لتصبح كسيحة أمام الأحزاب، أو التراشق بأوصاف «الوجوه السود» ولياليها «الكالحة»، و «الجنرال الأصفر» و «الزمرة الصبية»... الى آخر المعزوفة التي لا تستثني العمالة لإسرائيل، في بلد المقاومة؟ أم أن كل ذلك لتمكين اللبنانيين من مقاومة المَلَل في الوقت الضائع، الى ان يستقر ربيع الجيران على حال؟ يمكنهم اليوم أن ينعموا بشهر أمني يقطع الطريق أمام الفلتان المستشري، في صيف قائظ، بلا كهرباء وبلا سيّاح. ثلاثون يوماً قد تعطي بعضهم الجواب عن لغز دهشته لامتناع أشقاء عرب عن المجيء، ما كان سيحرّك بركة الركود المالي اللبناني، ويمنع شبح إفلاسات... وطالما لن يأتوا، لا بأس إذاً بالردح، وإن ادعى كل أبطال الانتظار، حرصاً على النأي بلبنان عن بركان «الربيع العربي»، وأصابع فتنة كبرى. 22 سنة على نهاية الحروب التي سُمّيت أهلية في بلد التعايش بين الطوائف والمذاهب... رغم ذلك الفتنة كانت نائمة، وأما السؤال عمَّن يوقظها فيكاد أن يماثل الطعن بنيات الجميع، تفادياً لاتهام جمهورية التعددية والحريات بالتآمر على ذاتها. الجميع يخشى «المؤامرة»، بمن فيهم «حزب الله» الذي يتوجس خصومه من قرار كبير يعدّ له، لاحتواء ساعة الصفر في سورية، لبنانياً. الجميع لا يملك سوى الانتظار، فيما تكبر الخشية من انهيار المناعة أمام مشروع الفتنة الكبرى... كلهم يعرفون هوية الطابور الخامس، كلهم يتحاشون ضبطه بالجرم المشهود، طالما المعركة في سورية وعليها لم تغلّب طرفاً بعد. ولكن، أليس ذا دلالة انتشار عناصر من الجيش اللبناني في الضاحية الجنوبية؟ هل يكون تمهيداً لضبط المخيمات، قبل «اليوم التالي» الذي يُعتقد بأن فريق 8 آذار يستعد له كما لو أنه حتمي؟ بداهةً، استتبع الحديث عن خطة اغتيالات تطاول زعامات لبنانية، ترميم جدار الخوف من فتنة سنية- شيعية، لكن ما حصل من ترويع لبيروت بعد بث مقابلة الشيخ الأسير، إذ يوجّه رياح الفتنة نحو مدارات أخرى، يثير ريبة وشكوكاً بإصرارٍ «صامت» على تدمير مناعة الانتظار، أو استباق محلي لتغيرات إقليمية. أما رهان اللبنانيين على صدّ الدولة الفلتان الأمني، و «شبيحة» عصابات الخطف والسطو، فلم يعد واقعياً منذ يئسوا من عودة الروح الى مؤسسات شيّعتها المحاصصة الى مقابر الأهداف «الكبرى». وهذه كافية لاستباحة كل شيء، بدءاً من الحريات المزعومة وصولاً الى تعايش لا يحميه أحد. فلندّعِ مجدداً ريادتنا «الربيع»، ونحصي الخيبات، ومرارات صيفٍ بائس.