الاستماع الى مقتطفات من برامج راديو ينقل المرء الى زمان ومكان آخرَين، الى ماض بعيد أو قريب. وفي فرنسا، ينظِّم متحف «آر إي ميتييه» والمعهد الوطني للفنون البصرية والسمعية ومتحف راديو فرنسا، معرضاً عن الراديو، حيث سيستمع الجمهور الى تسجيلات من برامج اذاعية تحمل مشاعر المتحدث ونبرته وتنسج شخصه في الحاضر، فيشعر المستمع بأن الأخير ماثل أمامه، فيبرز التباين بين موجات الأثير غير المرئية وبين أثرها البالغ والمادي. ويَسَعُ الزائرَ أن يستمع الى تسجيل لبيار داك، وهو كوميدي فرنسي مقاوم للاحتلال النازي، بثته «بي بي سي» في 11 أيار (مايو) 1944، يردّ فيه على فيليب هانريو، وهو سياسي يميني متطرف كان من أعلام حكومة فيشي المتعاملة مع الألمان، قائلاً: «على شاهدِ قبرك -إذا دُفنتَ ولم تُترك في العراء- سيُكتب: مات من أجل هتلر وأعدمه الفرنسيون». وبين 1920 و1933، أبصر البث اللاسلكي النور، وأنشئت عشرات الإذاعات وكانت غالبية مستمعيها من هواة التكنولوجيا الجديدة. وبين 1933 و1939 صار الراديو قطعة أثاث منزلية، ووجد طريقه إلى الحياة الأسرية البيتية، وبدأت الإذاعات تعرض سلسلات من البرامج المتنوعة، من التحقيقات الى المسلسلات، وكانت النساء والعائلات شطراً راجحاً من الجمهور. وبين 1939 و1945 ارتقت محطات الراديو سلاحاً نافذاً في معركة موجات الأثير بين راديو باريس (الواقع في قبضة الاحتلال النازي) وراديو لندن. ومن منبر راديو لندن، توجه الجنرال الفرنسي شارل ديغول في 18 حزيران (يونيو) 1940، الى الفرنسيين وأطلق نداء «فرنسا الحرة ومقاومة الضباط الأحرار النازيين». وبين 1945 و1960 رُفع الاحتكار الحكومي عن الراديو، وبدأ عصر الراديو الثقافي الذهبي. وبين 1960 و2000 عالجت محطات الراديو شؤون الشباب، وتوجهت اليهم، وحاكت أهواءهم. وبدا في 1981 أن الشباب بدأوا ينظرون بعين السأم إلى احتكار الخبراء والمختصين الراديو، وأرادوا الاستيلاء على كل شيء، الراديو والموسيقى والمدينة، على قول المؤرخ أنطوان لفيبور. ثم أطاح التلفزيون الراديو من عرشه، وأقصاه الى الفترة الصباحية من اليوم، وسرق الاضواء منه، وبين 2000 و2012 بدأ عصر الإنترنت وأبصر النور الراديو الرقمي–الارضي وجهاز «أم بي 3». وإثر تمضية وقت في الاستماع الى أرشيف الراديو، يدرك المرء أن عالمه (الراديو) وثيق الصلة بالفن المرئي والتعبير الحافل بالألوان والأشكال. عام 1982، قال يان بارانتوين وهو مخرج وثائقي موهوب في «فرانس كولتور»: «أعمل مثل صاقل الحجارة ونحّاتها، أستخرج في وقتٍ أولَ كتلة صوتية، ثم أُوَلِّفها توليفاً يناسب حجمها، واللمسة الأخيرة تكون للنحات، فيتولى تلميعَ- يقصد مزج الأصوات- العمل الفني». وقوة القدرة على الابتكار هذه فعلت فعلها في الجمهور في 1942، فيومها أعدَّ الراديو الفرنسي مسلسلاً خيالياً عن غرق سفينة حربية اسمه «ماريموتو»، ثم اضطر الى وقف بثه (المسلسل) نزولاً على ردود المستمعين المنفعلة، فهم حسِبوا ان الحادثة مأساة حقيقية وليست من بنات الخيال. وأرجئ عرض المسلسل الى 1949، إثر أعوام على انتهاء الحرب الثانية، وأُرفق بتحذير يقول: «سيداتي سادتي، الرجال الذين استمعتم إليهم وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة لا يزالون أحياء!».