عام 2010 هو بلا شك عام الفن البريطاني في باريس. فبعد معرض ويليام تورنر في «القصر الكبير» ومعرض لوسيان فرود في مركز بومبيدو، ينظّم حالياً مركز غولبنكيان للفن الحديث معرضاً ضخماً تحت عنوان «كما يفعل الحالمون» يضم عشرات الأعمال الفنية المهمة التي تعود إلى فنانين بريطانيين كبار نشطوا بين عامَي 1957 و1971، الأمر الذي يتيح فرصة التوقّف أمام التطوّرات المثيرة والمختلفة التي طرأت على الفن الحديث في بريطانيا خلال مرحلة الستينات المجيدة. طريقة ترتيب مسار المعرض أملتها التناغمات الملاحظة بين أعمال الفنانين المعروضين أو مساعيهم الفنية. ومن هذا المنطلق يبدأ المعرض بمحفورة من سلسلة المحفورات التي حققها فنان «البوب» ريشارد هاميلتون تحت عنوان «لندن الراقصة - القارصة» (1967) حول موضوع توقيف ومحاكمة مغني فرقة رولينغ ستون ميك جاغر وروبرت فرايزر، صاحب إحدى أهم غاليريات لندن في الستينات، لتعاطيهما المخدّرات. ويظهر جاغر وفرايزر، داخل هذا العمل، على المقعد الخلفي في سيارة الشرطة، مقيّدين «كمجرمَين سافلَين». أما هدف هاميلتون من هذه السلسلة الشهيرة فكان التعبير عن سخطه حيال هذا التوقيف التعسّفي بحق نجمَين ساهما بقوة في إشعاع لندن الفني آنذاك وفي التغييرات الإيجابية التي طرأت على المجتمع البريطاني المحافظ، وبالتالي الشهادة على نهاية حلم الستينات، حلم بمتعةٍ وحريةٍ لا رادع لهما. العمل الثاني في المعرض هو لوحة «جدار الحب» التي أنجزها بيتر بلايك بين عامَي 1959 و1962 انطلاقاً من تشكيلات هندسية وملصقات تتألف أجزاؤها من قصاصات صحافية حول نجوم سينمائيين ومن بطاقات بريدية قديمة تحمل صور عشّاق. ويتمتع هذا العمل بجاذبية تلصّصية واضحة وبصورية تمثّل نماذج حب مختلفة: حب نجوم السينما، الحب الرومنطيقي الذي يؤول إلى تأسيس عائلة، والحب كموضوع يعكس العلاقات المشوَّشة والمعقّدة بين الجنسَين. أما بلايك فينتمي إلى الجيل الذي سبق مباشرةً «أطفال البوب الرهيبين»، وقد فتح أمام هؤلاء إمكانياتٍ تمثيلية جديدة بفضل لوحاته التي حققها في الخمسينات وأسّست لتسوية فريدة بين تصويرٍ مراجعه في عالم الطفولة والمراهقة، ومسائل كانت تهمّه بشكلٍ خاص داخل الثقافة الشعبية المعاصرة. الفنان الثالث الحاضر في المعرض هو جو تيلسون الذي نشاهد له لوحة تجريدية مادّية وأحادية اللون (1959) وأخرى مشكَّلة من تضاريس خشبية تحمل ألواناً مرتجّة وتنطوي على رمزية جدّ متداولة (1967). ولا عجب في هذا الترتيب، فتيلسون وبلايك كانا رفيقين وصديقين في الكلية الملكية للفنون قبل أن ينخرطا في تيار «البوب» ويستخدما التقنيات الحرفية للحصول على مفاعيل بصرية في أعمالهما. لكن تيلسون ابتكر جماليةً خاصة، ضمن أسلوب «البوب»، لا تعكس المبالغات والجانب السريع الزوال للثقافة المسيَّرة من في وسائل الإعلام، على رغم تأثّر هذه الجمالية بصوريةٍ مدينية وبألعاب الأطفال وألعابٍ فكرية، وبرمزية شاملة مبسَّطة ومستخدمة في منتجات استهلاكية مختلفة. ومثل تيلسون، طوّر ديريك بوشيي الحاضر في المعرض بعملي «بوب» ديناميكيين على المستوى البصري، أسلوباً خاصاً به، بين عامَي 1961 و1962، هو كناية عن مزيجٍ من التصوير والتجريد ضمن تشكيلات ذات طابع سرّيالي تقارب، انطلاقاً من أرائه السياسية اليسارية، مسائل سياسية واجتماعية، كأمركة أوروبا التدريجية والحرب الباردة. أما أنتوني دونالدسون الحاضر في المعرض بلوحة «طلقة صيف» (1964)، والذي كان يرسم لوحاته انطلاقاً من صور فوتوغرافية، فيختلف عمله كلياً عن عمل ديريك لاقترابه من أسلوب «البوب النظيف» ومن صورية الرسامين الأميركيين. وبدوره، يقترح ألان جونس في لوحة «مظلّي رقم 2» (1963) الحاضرة في المعرض عالماً بصرياً وتصوّرياً مختلفاً جداً عن عالم دونالدسون. فمع أن موضوع تمثيل جسد المرأة، بمواصفاته الكلاسيكية الإغرائية واللافتة، حاضرٌ في هذا العمل، كما في معظم أعماله اللاحقة، لكنه ينصهر في لوحات سنوات الستينات الأولى مع موضوع تمثيل جسد الرجل، خالقاً بذلك صور ذات شحنة إروسية كبيرة تندرج ضمن جمالية «البوب آرت» المعهودة. ومع لوحتَي الفنانة بريدجت ريلاي، «مركبة نقّالة» و «تحولات» (1964)، ننتقل إلى أسلوبٍ يختلف كلياً عن أسلوب «البوب» ويتميّز بشعرية اللا ثبات، ونقصد «الأوب آرت» أو «الفن البصري». فمفردات ريلاي الرسامية تتألف من ألوانٍ وأشكالٍ مجرّدة توظّفها الفنانة لبلوغ تدرّجات شكلية وروابط لونية وبنيات مكرَّرة تهدف إلى خلق أحاسيسٍ بالحركة والضوء والفضاء. ومع أن ريلاي أشارت مراراً إلى عدم دراستها علم البصريات وعدم استخدامها علوم الرياضيات في تشكيلاتها، تبدو العلاقات بين عناصر لوحاتها مدروسة بدقةٍ عالية. وبين هذه اللوحات ولوحات يان ستيفينسون الحاضر أيضاً في المعرض بلوحتين، ثمّة نقاطٌ مشتركة. فالاثنان درسا أسلوب جورج سورا التنقيطي وإمكاناته الفنية، وانشغلا بمسائل تتعلق بالإدراك البصري. لكن ستيفينسون حافظ على اللغة التنقيطية مشكّلاً لوحاته انطلاقاً من طبقات متراكبة من النقاط الصغيرة المُسقَطة على اللوحة أو الورقة. وتشدّنا داخل المعرض أعمال النحاتين الذين عُرفوا تحت تسمية «مجموعة الجيل الجديد» وتأثّروا جميعاً بالتغييرات الجذرية التي أدخلها النحات الكبير أنتوني كارو على المنحوتة البريطانية في الخمسينات، أي مايكل بولوس وفيليب كينغ وإيزاك ويتكين ودايفيد أنّيسلي وتيم سكوت. ففي هذه الأعمال، نستشف تنظيماً فضائياً مختلفاً عمّا سبقه، ينطلق من الأرض التي تستقبله ويعبر سلّم حجمه الخاص قبل أن يبلغ العلاقة النسبية بين حجمه والفضاء المحيط به. حقلٌ متعدد الوجهات إذاً (بدلاً من الوجهة الوحيدة للمنحوتة التصويرية السابقة)، يوقظ نظرة المتأمّل به ويدفعه إلى عبور الفضاء الهندسي، الداخلي عموماً، الموجود فيه. وبواسطة الاستخدام الثوري للألوان في هذه المنحوتات، توحي كل واحدة بإحساسٍ مختلف (الخفّة أو الجاذبية) يرتبط بالتجربة المادّية المباشَرة. أما أعمال جون هويلاند وبول هيوكسلي وروبن ديني وغيليان أيريس وهارولد كوهين فتقترح بأحجامها وطبيعتها المادية حواراً مشوّقاً مع المتأمّل فيها وتقترب في عملية تشكيلها من منحوتات «الجيل الجديد» على مستوى الروابط الشكلية بين مختلف العناصر التي تتشكّل منها والأشكال الهندسية البسيطة المعتمدة فيها وألوانها الموحّدة والمسطّحة وإيحائها بالحركة، ولكن أيضاً على مستوى نظرتنا للفضاء الذي تعيد هذه الأعمال صوغه. ومع ألان دايفي الحاضر بخمس لوحات في المعرض، ننتقل إلى أسلوبٍ يتراوح بين الفن الخام والسريالية لتبنّي صاحبه الآلية كسيرورة لإبداعه وتركه اللاوعي يسيل داخل أعماله بحثاً عن أناه الأكثر حميمية وسعياً إلى إيقاظ ملكة المعرفة المباشَرة بواسطة الحدس. ولا يتوقف المعرض عند هذا الحد بل يغطي أيضاً الاختبارات التجريدية في بريطانيا خلال الستينات التي تقف خلفها وجوهٌ غنية عن التعريف مثل جيريمي مون وريشارد سميث وروجر هيلتون ومجموعة التجريديين المشهديين (ويليام سكوت، تيري فروست وباتريك هيرون)، والاختبارات التصويرية لفنانين كبار مثل لويس لو بروكي وفرانك أورباخ وبيون كوسّوف نشطوا إلى جانب العملاقين لوسيان فرود وفرنسيس بايكون ورسموا موديلاتهم على غرارهما، داخل مناخٍ ثقيلٍ ومعتمٍ، بعيداً عن أي حيلة سردية، من دون أن يهمل منحوتات هوبرت دالوود وجون هوسكين المعدنية التي تبتعد عن أي تمثيلٍ للشكل البشري، على رغم بنيتها العمودية، وتركز على لغةٍ تجريدية صافية.