«إنّها ليست سوى قطرةِ ضوء/ وكانت على جفنكَ/ فكيف لا أغمسُ بالشّهوات الكلام/ كيف لا أبخّرُكَ من العين/ ولا أرقيكَ بالأزرق/ ثمّ لا أرقدُ إلى جواركَ/ سحابةً/ أو مناماً/ أو لنقل جملةً ناقصة». بهذه العبارات الحارقة، الطّافحة بالنّار نار الأشواق المجنّحة، تدخل زليخة أبو ريشة أرض الحب المدهشة الآسرة المربِكة، لتحلّق في فضائها، لتغتبط وترقص وتُجَنّ. فجأةً يختفي العالم المتجهّم من حولها، يختفي الصراخ المجلجل، الرّماد الذي يسدّ الدّروب والهواء اللزج الثّقيل، ولا يعود أمامها سوى تلك الأمداء الفسيحة الزرقاء الحالمة، والضّوء الذي يتصبّب من وجه المعشوق. لكأنّها بالحبّ تعيد ابتكار العالم، وتنظّف قلبه من دودة الخطأ. ليس الخطأ فقط هو ما ينتشر في الهواء والتراب، ويمسخ أرواح الآخرين، ولكنّ الخطأ أيضاً هو ما يتسرّب إلى مملكة العشّاق، ويجعلهم محض مهرّجين في فصل من فصول مسرحيّة فاشلة. في المجموعتين الشّعريّتين اللتين الأخيرتين للشّاعرة زليخة أبو ريشة، وهما «جَوى»، و «في ثناء الجميل» (منشورات أمانة عمّان الكبرى)، محاولة للطّواف في ملكوت الحبّ العاصف اللذيذ المدمِّر، ولكن من خلال مقاربة جديدة لطبيعة هذا الحبّ، واقتراحات مغايرة لما تعوّدنا عليه من أحاسيس وأفكار تحكم العلاقة القائمة بين طرفي الحب: الرّجل والمرأة. في هذه المحاولة تذهب بنا زليخة باتّجاه تلك التّخوم الغامضة التي يقيم فيها العاشق لتسبر أبعادها، وتبثّها بمزيد من البوح الحُرّ والرّؤى التي تصدر عن فهم ووعي جديدين. ونستطيع أن نقول إنّ هذه المحاولة كانت حصيلة استقصاء روحي ومعرفي أنجزته زليخة عبر تجربتها الشعرية الطّويلة. قبل زليخة تعوّدنا أن نقرأ شعراً كثيراً في الحبّ مدبّجاً بأفواه النّساء الشّاعرات، ولكنّ ذلك الشعر كان في الغالب مسكوناً بمرجعيّة ذكورية من صنع الرّجل نفسه، لقد توزّع ذلك الشّعر بين نوعين من القصائد: النّوع الأوّل كان يُكتَب من منطلق الحرص على التقاليد السّائدة، والتي كانت تقاليد ذكورية بامتياز، فكان يجرى التّعامل مع المعشوق الرّجل باعتباره السّيّد المطاع، وباعتبار العاشقة المرأة مجرّد ملحق صغير من ملحقات مملكته الكثيرة. كان التّذلّل واستجداءُ الحبّ بمثابة العنوان العريض الذي تدور في فلكه القصائد، أمّا أشواقُ المرأة ورغباتُها فكانت تختفي تحت ذلك الكلام المقيّد المكتوم المغلّف بمسحة رومانسية. الثورة الجارفة النّوعِ الثاني من شعر الحب الذي كتبته المرأة تمثّل بتلك الثورة الجارفة التي حملتها بعض النّصوص الجريئة، والتي كان الهدف من ورائها الإطاحة بتعاليم الرّجل. لقد أصبحنا نقرأ في بعض الأحيان شعراً استعلائيّاً ويكاد يكون عدائيّاً لكلّ ما هو ذكوري. وعلى رغم مثل هذه العداوة، إلا أنّنا لو دقّقنا النّظر مليّاً في الخطاب الجديد فسنجده مجرّد ردّ فعل متسرّع إزاء خطاب الذّكورة. بعبارة أخرى نجد أنّه صورة مماثلة لخطاب الذكورة اللهمّ أنّه أصبح يصدر عن المرأة. في شعر زليخة يمكن أن نرصد التّحوّلات الجديدة التي تؤسّس لهذا الفهم المتطوّر في العلاقة بين طرفي الحبّ، وذلك من خلال الكثير من الأفكار المختلفة المبثوثة في ثنايا القصائد: لنلاحظ في البداية الإهداء الذي حمله ديوان جوى: تقول زليخة في هذا الإهداء: «إلى قادحها هذه القصيدة في روحي، الخفيّ المرتبك الحيران المتردّد الخائف الودود اللطيف المتراجع النّعسان». إنّ مثل هذه الصّفات وعلى رغم ما يمكن أن توحي به من معانٍ علويّة في بعض الأحيان هي صفات ذات بعد إنساني يمكن أن تنطبق على الرّجل العادي، فهي صفات تتردّد بين الضّعف والقوّة، بين السّلبية والإيجابية، وبذلك فقد تمّ من خلال هذا الإهداء تجريد الرّجل المعشوق من هالته، وتقديمه كرجل يعيش على الأرض. في مقطع آخر من ديوان (جوى) تقول زليخة: «فهل أنّي حرّضتك ضدّ اختلافي؟/ ومِن على مسافة أنظر إليك/ دائماً من على مسافة أملأها بالبرق/ أحياناً فيها ملح/ المسافة التي بيننا/ أحياناً فيها نساء سيتلفّعن بالسّواد». إنّ وجود مثل هذه المسافة التي تتحدّث عنها الشّاعرة هو مسألة في غاية الأهمية، ذلك أنّ هذه المسافة ستحفظ للمرأة باستمرار ملامحها المميزة وتحفظ لها اختلافها، أمّا امحاؤها فسيخلق نوعاً من التّماهي بين الطّرفين، وبالتّالي الذّوبان ربّما في شخصيّة الرّجل. في المقطع الأخير من القصيدة تصل الأمور بالعاشقة لتقول لعاشقها من دون مواربة: «حلمت بهجركَ»، ومعنى ذلك أنّها ما زالت تحتفظ بقرارها الخاص المتحرّر من سطوة الرّجل. في المجموعة الثّانية (في ثناء الجميل) تتواصل هذه الإضاءات التي تنبئ في كلّ مرّة عن وعي جديد. في قصيدة بعنوان «فروق» تقول زليخة: «فروق طفيفة تلك التي بين يديك وقلبي/ فروق لا تكاد تُرى/ فمادّة يديك التي من رغوة الرّغبة/ تشبه هواء قلبي المبتهج بالحرّيّة». وهكذا فوجود هذا الابتهاج بالحريّة لقلبها يجعل المرأة منعتقة من كلّ ما يمكن أن يكبّلها بالأغلال. الحرية هنا هي شرط ضروري من شروط الحب، ومن دونه ينقلب الحبّ إلى تبعية فيفسد. لعلّ أكثر ما يُلفت إلى طبيعة هذا الوعي الجديد هو المقطع التالي من قصيدة بعنوان «الكاملون للكاملات»: «لا تذهب في الأعالي/ هنّ لا يحببن المبالغات/ لا تتهندم/ هنّ يُرِدنك عارياً من كلّ يقين/ وإن كنت في حضرتهنّ/ فأت بذنوبكَ وافردها على بساطهنّ/ حتى يغفرنها لكَ/ فهنّ لا يحببن إلاّ الخطّائين». إنّها وصايا نابعة من قلب حرّ ناضج لا يحبّ الزّيف ولا المداهنات، المداهنات التي ملأت في ما مضى خطاب الحبّ في الشعر العربي وروّجت لنموذج الرجل الأسطورة. في ظلّ هذه الرّؤيا العميقة التي توفّر للحبّ شرطه الإنساني، ودهشته واخضراره، تفتح زليخة شرفتها للشّمس والأمطار، وتلقي بقلبها ليطير مثل صقر محارب في لجّة العاصفة... اللبؤة التي تلعب في رأسها الزّلازل ستتبع رائحة العاشق أينما حلّ، وستكمن له في المنحدرات والمفارق. الفرس الجامحة الممسوسة لن تتوقّف عن الصّهيل، والرّكض حتى آخر الدّنيا. في هاتين المجموعتين نحن أمام خيال عبقريّ يعيد تشكيل العالم، ويغرقنا بطوفان كاسح من الأخيلة والصّور. يمتزج الحبّ هنا بكلّ ما هو جميل وشفّاف، وترفّ غرّته الشّهباء في أعماق السّماء والأرض، في الأشجار والحجارة والجدران والطّرق، كأنّ الأشياء جميعها ما هي إلى مرايا له. الحبّ هنا كالحريّة وكالشّعر لا يمكنه أن يكتمل، إنّه مفتوح على الاحتمالات، ولا ينشد طريقاً واضحة المعالم بقدر ما ينشد الضّلال. يبقى الحبّ شغلَ الشّاعرة ويبقى التّعمّدُ بناره وركوبُ أمواجه العاتية هو الرّغبة التي ما بعدها رغبة.