تمر العملية السياسية في العراق بمرحلة مفصلية، تنبئ بإنهاء حكومات التوافق التي حكمت منذ عام 2003، بترسيخ قناعات بإمكان تشكيل حكومات غالبية سياسية. على رغم دعوة الرئيس جلال طالباني إلى العودة إلى التوافق، وتأكيده في بيان مساء أول من أمس أن الجبهة المعارضة لرئيس الحكومة نوري المالكي لم تنجح في جمع أكثر من 160 صوتاً لإقالته، فيما تحتاج الإقالة إلى 164 صوتاً على الأقل، فلا يتوقع أن تجد الدعوة إلى الحوار آذاناً صاغية في الوسط السياسي الذي وصلت قواه إلى مرحلة اللاعودة في مواقفها. فمجموعة ال160، كما أطلقت على نفسها، وتضم جماعة الصدر وبارزاني وعلاوي أكدت مضيها في إجراءات بديلة لإقالة المالكي، عبر استجوابه في البرلمان، بعدما رفض طالباني المشاركة في سحب الثقة منه. لكن هذه المجموعة التي أعلنت أنها ستجمع 180 صوتاً على الأقل، تعرضت لانشقاقات، وساهم عدد من نواب «العراقية» و «الاتحاد الوطني الكردستاني»، بزعامة طالباني، في عدم تأمين النصاب المطلوب، ومع هذا فان إمكان عودتها عن خيار سحب الثقة لم يعد مطروحاً. ويعلق قيادي بارز في هذه المجموعة على الموضوع فيقول إن: «بارزاني والصدر وعلاوي والنجيفي ربطوا مستقبلهم بإقالة المالكي، ونتائج هذه المعركة لن تحسم بالعودة إلى الاتفاق معه، لأن هذا الخيار يعني بالنسبة تراجع شعبية الصدر ووزن كتلته النيابية إلى النصف، ويعني أيضاً تفتت كتلة علاوي والنجيفي، وسيصاب بارزاني بنكسة في صميم التوافق الكردي – الكردي وطعن في هيبته». ومعايير الخسارة والربح في الأزمة هي من سيحدد كما يبدو خيارات طرفي الصراع. جبهة المالكي بدأت أمس بالتعامل مع الطرف الآخر باعتباره «خاسراً»، وهذا كفيل بتعميق الهوة بين الطرفين، كما أن المالكي نفسه طرح مشروع تشكيل حكومة غالبية سياسية، وروج المقربون منه لهذا الخيار كحل للأزمة. وبلغة الأرقام فإن المالكي سينجح في تشكيل جبهة من 155 نائباً، وتضم بالإضافة إلى كتلته التي تمثل أكبر القوى الشيعية، مجموعات من السنة، خصوصاً من كركوك والأنبار، ومجموعات أخرى من الأكراد خصوصاً من كتلة التغيير لتشكيل الحكومة ويتطلع إلى استقطاب عشرة أصوات من حزب طالباني، وهذا الخيار يعني الدفع ببارزاني وعلاوي والصدر إلى المعارضة، وهو احتمال ضعيف بسبب حجم تمثيل القوى الثلاث في الشارع وامتدادها دينياً وقبلياً. وخيار الجبهة الأخرى ليس بعيداً من سيناريو حكومة الأكثرية، فهي ستسعى إلى إسقاط المالكي بعد استجوابه برلمانياً، وتحتاج إلى 4 أصوات لتمرير مشروعها. في كل الأحوال تبدو استعادة أجواء «التوافق السياسي» الذي يتم تعريفه في العراق بال «شراكة» غير ممكنة، على الأقل قبل انتخابات مجالس المحافظات المقبلة بداية عام 2013. هكذا صبحت حكومة الغالبية السياسية احتمالاً ممكناً بسبب تفكك الكتل السياسية باعتبارها ممثلة للمكونات الثلاثة، وقدرة كلا الفريقين على حشد أصوات كردية وشيعية وسنية لدعم حكومته. يبقى أن طيفاً من المراقبين يعتقد في المقابل أن التوافق السياسي لم يكن موجوداً في العراق في الأساس إلا في اتفاقات تشكيل الحكومة وتقاسم المناصب. واستعادة هذه الأجواء قابل للتحقق في حالة وحيدة، تتمثل في إقدام المالكي في هذه اللحظة تحديداً إلى تقديم تنازلات كبيرة لإرضاء خصومه. ويذهب هذا الفريق إلى القول إن نجاح المالكي في صد الهجوم الأول سيخلف نوعين من ردود الفعل، الأول يمثل توجهه إلى تجريد خصومه تباعاً، عبر استقطاب مناصريهم، بما يشبه عملية «الإذلال السياسي»، ما يقود إلى مزيد من التصعيد على المدى الطويل. والثاني يفترض استثمار المالكي لحظة تفوقه النسبي للتصالح مع خصومه بانتظار ظهور انعكاسات الصراع على نتائج الانتخابات المقبلة.