تأمل في العنوان قليلاً، وتذكر وأنت تفعل ذلك أن سورية توشك أن تصبح بلد المجازر الجماعية المتنقلة. ثم استعد ما قاله الرئيس الأسد في خطابه الأحد الماضي عن هذه المجازر، وعن القتل. قال بالنص: «عندما يدخل الطبيب الجراح إلى غرفة العمليات، ويفتح الجرح، وينزف الجرح، ويقطع، ويستأصل، ويبتر (لاحظ المفردات)... ماذا نقول له تبت يداك هي ملوثة بالدماء؟ أم نقول له سلمت يداك لأنك أنقذت المريض؟». قال هذا بعد مجزرة الحولة بتسعة أيام. الرئيس يبرر القتل بذريعة أن سورية مريضة، وفي حاجة الى عملية جراحية تقتضي سفك الدم. هل هذه إشارة ببدء الحرب الأهلية؟ لم يعد للسؤال من معنى. السؤال: من الذين يرتكبون المجازر؟ شبيحة النظام؟ أم شبيحة المعارضة؟ مهما يكن، هم يقلدون أسلوب النظام السياسي في نشر الخوف بين المواطنين منذ أربعة عقود. الآن ضع السؤال: ماذا يعني أن يناور رئيس الدولة على دم الشعب بالسقف الوطني؟ السقف الوطني من الثوابت. المفترض أنه محل إجماع، لأنه أساس علاقة الدولة مع المواطن. في المقابل المناورة أداة سياسية لإدارة الصراع بين خصوم أو أعداء. وهي تنطوي على خليط من الذكاء والخبث، والتصيد، والكذب إذا لزم الأمر، للإيقاع بالخصم. في الأصل ما يربط رئيس الدولة بشعبه لا ينتمي إلى هذا النوع من العلاقة، وبالتالي لا مكان فيه لمناورة. ومن هذه الزاوية، لا يجوز لا سياسياً ولا أخلاقياً أن يلجأ رئيس الدولة إلى المناورة بالسقف الوطني مع شعبه. وعندما تجد المناورة مكاناً لها في علاقة الرئيس مع شعبه، فهذا دليل على أن العلاقة قد اضطربت، وفقدت أساس مشروعيتها. الشعب لا يمكن أن يكون خصماً للرئيس، لأنه هو المبرر الوحيد لوجود الرئيس ولدوره. الرئيس هو الذي يمكن أن يكون خصماً للشعب. وعليه عندما تحصل أزمة سياسية بينه وبين الشعب، وتنغلق أبواب حلها، يجب على الرئيس الاستقالة لإفساح الطريق أمام حلها. وعندما يستخدم القتل والعنف، لحل الأزمة، ثم يلجأ إلى المناورة للتغطية على ما يقوم به، فإنه يصبح مغتصباً للسلطة. اللجوء الى المناورة يضع دم الشعب مقابل السقف الوطني. وهذا علامة على قناعة الرئيس بأن نظامه يخوض معركة بقائه، بل معركته الأخيرة. هذا ما دأب عليه الرئيس السوري، بشار الأسد. تمسكه بالإثنين معاً، الحل الأمني والمناورة، يدل على أنه لا يرى بديلاً آخر للتعامل مع الأزمة السياسية التي وضعته الثورة في قبضتها. وإذا كان يتكئ في الحل الأمني على السلاح، فإنه يتكئ في مناورته على أفكار ثلاث: إرهاب داخلي ينفذ مؤامرة خارجية، ومحتجون منساقون وراء المؤامرة. ولمواجهة ذلك يرفع الرئيس شعار السقف الوطني. ما هي ملامح المناورة، أو الكذب والخداع، في هذه الأفكار؟ الأرجح أن الرئيس يعرف أن ليس هناك مؤامرة. لكنه يلجأ إليها لسهولة توظيفها، ولأنه لا يملك خياراً آخر. توقيت رفعها في وجه الشعب يعكس إما غباء، أو غطرسة سياسية، أو حالة يأس. كسب الشعب ليس من أولويات الرئيس. يعرف الرئيس أن أرقام الثورة، وخريطتها الجغرافية، بجانب حجم الآلة العسكرية التي يستخدمها ضدها، تؤكد أن عدد المحتجين كبير، ويغطي معظم أنحاء سورية. والغالبية الصامتة إما أنها مع الثورة، أو أنها ضد النظام، أو الاثنين معاً. هل يمكن أن يكون كل هؤلاء متورطين في مؤامرة؟ وهل يمكن من يحملون أرواحهم على أكفهم في مواجهة آلة القتل بتحد صلب، وفي شكل يومي على مدى أكثر من عام، أن ينفذوا مؤامرة أجنبية؟ لا يمكن اتهام الرئيس بأنه يفتقد الذكاء، لكن من الواضح أنه ينتمي إلى عالم لا ينتمي إليه الشعب. مع أن الرئيس يصر على صغر حجم المشاركين في الثورة، أو المحتجين، إلا أنه لا يذكر أبداً رقماً أو نسبة رسمية تحدد هذا الحجم. وحتى لو قبلنا جدلاً بأن عدد المشاركين في الثورة والمتعاطفين معها صغير، وأن الغالبية تتظاهر تأييداً للرئيس وإصلاحاته، تبرز أسئلة تهز هذا القبول من أساسه. لماذا يحتاج النظام الى أكثر من 16 جهازاً أمنياً؟ وما هو مبرر إنزال الجيش بآلياته يحاصر المدن والبلدات؟ وما هي الحاجة الى الدبابات والمدرعات والمدافع، والطائرات السمتية؟ إذا كان حجم المحتجين صغيراً، فلماذا تقصف المدن، والأحياء في شكل يومي؟ وكيف نفسر أن أرقام الضحايا من قتلى، ومصابين، ومفقودين، ولاجئين، ومعتقلين وصلت إلى مئات الآلاف، وتتصاعد؟ هل في هذا مبالغة؟ حسناً لماذا لا تفصح الجهات الرسمية عن أرقامها؟ هل تملك أرقاماً تتفادى الإفصاح عنها؟ أم أن هذه الأرقام لم تعد تعني الجهات الرسمية في شيء؟ بالنسبة الى من يتظاهرون «تأييداً للرئيس»، كيف يمكن التعرف على حقيقة موقفهم في ظل نظام يحرم أبسط أشكال حرية التعبير عن الرأي، ويعتبر النقد السياسي للنظام جريمة تستحق السجن. وهذا تحديداً ما حصل، لمئات، بل آلاف من المثقفين والناشطين والمعارضين السياسيين منذ سبعينات القرن الماضي. السؤال الذي يجب أن يواجهه الرئيس هو: هل أن غالبية الشعب تؤيده؟ أم أن هذه الغالبية تخشى قسوة النظام ووحشيته، ولذلك تتظاهر بالتأييد، أو تتفادى الموضوع السياسي جملة وتفصيلاً؟ والأغرب من الأسئلة أن أداء الإعلام الرسمي، المكتوب والمرئي، لا يؤيد فرضية أن غالبية الشعب تقف مع النظام. كل من يكتبون أو يتحدثون لهذا الإعلام يقولون الشيء نفسه، وأحياناً العبارة نفسها. في ما عدا المديح المباشر، يتفق جميع هؤلاء من دون استثناء على تفادي الحديث عن الوضع السياسي الداخلي. وهذه هي سياسة النظام الإعلامية منذ أربعين سنة. هذا ليس إعلام نظام يحظى بتأييد غالبية الشعب. مثل هذا النظام يملك من الثقة والاطمئنان أنه لا يحتاج الى مثل هذه الرقابة الصارمة، ولا الى مثل هذا الإعلام الرث. لكن أهم وأكثر ما يناور به الرئيس هو السقف الوطني. بدلاً من الاستناد إلى هذا السقف لمواجهة العاصفة، يلجأ إلى المناورة به. ومع من؟ مع الشعب. هل فات الرئيس أن ليس من الوطنية أن يطلب من شعبه تقديم أنفس التضحيات، بينما هو يرفض التضحية بما هو أقل من ذلك بكثير: التنازل عن الحكم نزولاً عند رغبة الشعب. وحقيقة أن الرئيس استثنى موضوع الحكم من «برنامجه الإصلاحي»، جعل من هذا البرنامج امتداداً للمناورة وليس الإصلاح. وهو ما يتكامل مع الحل الأمني أمام شعب أعزل يطالب بحقه في الحرية والكرامة؟ هل تساءل الرئيس يوماً إن كان عدد ضحايا نظامه من أبناء الشعب أكثر من ضحايا جيش العدو الإسرائيلي؟ ثم إن صمت الرئيس المطبق عن موضوع الحكم ينطوي على تمسك بمبدأ التوريث في نظام جمهوري لا يقر هذا المبدأ؟ من الواضح أن للرئيس مفهوماً للوطنية يتصادم مع مفهوم الشعب لها. الرئيس لا يعتبر الشعب مصدراً لشرعية الحكم، وإنما موضوعاً له. وبما أنه كذلك فهو مصدر للفتنة، والاحتجاج، والثورة. السقف الوطني بالنسبة الى الرئيس لا يرتكز على المواطنة وما تنطوي عليه من حقوق في الحرية والعدالة والمساواة أمام القانون. في نظره هذا السقف هو أولاً الحكم، وثانياً حقه هو المكتسب، وربما الطبيعي، للبقاء في سدته. وفقاً لهذا المفهوم لا يملك الشعب حق المطالبة بإزاحته. من يطالب بذلك فهو فاقد لحسه الوطني. ولذلك لا يتوقف الرئيس، ومعه مسؤولو النظام، عن القول إن كل من يطالب بالإصلاح تحت سقف الوطن، فأهلاً وسهلاً به. أما من يطالب بالإصلاح خارج هذا السقف فهو إنسان متآمر، وعميل لقوى خارجية تستهدف وحدة سورية واستقرارها». أي أن الرئيس يختزل الوطن في شخصه. وليس في هذا جديد بالنسبة الى النظام السوري. فالرئيس الراحل حافظ الأسد لا يزال قائد سورية إلى الأبد. وعلى قياس سقف الرئيس جاءت «إصلاحاته». الشيخ أحمد الشلاش من الذين جاءت بهم هذه «الإصلاحات» إلى مجلس الشعب الجديد. يوم الأربعاء الماضي كان الشيخ ضيفاً على برنامج «الحدث» الصباحي لقناة «الجديد» اللبنانية. وقد ورد أثناء البرنامج خبر عاجل عن تعيين رئيس جديد للوزراء في سورية. سأل مقدم البرنامج ضيفه إن كان يعرف شيئاً عن رئيس الوزراء الجديد، فقال: «لم ألتق الرجل من قبل، ولا أعرف عنه شيئاً»، ثم أضاف بما معناه أن الرئيس هو الذي اختاره لهذا المنصب، فلا بد من أنه أهل له. عضو مجلس الشعب الإصلاحي صادق على خيار الرئيس قبل أن يعرف عنه شيئاً. ما يعني أن العضو الجديد لا يمثل الدائرة التي انتخبته، قدر تمثيله الرئيس. وهكذا كان مجلس الشعب السوري طوال أربعة عقود. ومع ذلك يصر الرئيس على أنه سينتصر على المؤامرة. لم يدرك أنه بمناورته على دم الشعب جعل من نفسه المتآمر الأول. ومصير المتآمر لم يتغير عبر التاريخ. * كاتب سعودي